الخميس، 6 أغسطس 2009

مزاج رائق

اللوحة للفنانة منال العنزي

ولع باللذة الآفلة
بزهر الأشواك قرب المدفن
بنعاس في مقعد الحافلة الخلفي
بمنبه عاطل في الذاكرة
بسعير في شفتها السفلى
ما يوقظني هذه اللحظة
لأكتب قصيدة

**********

لن أشير إلى حزني الرهيف
ولا إلى بنت الجيران
التي جعلت من سطح بيتي حديقة
ولا إلى طعم البخور في المساء
لن أشير
إلى رائحة الكسوة صباح العيد
ولا إلى
صمت المعبد المهجور
وقصة "عذراء للبيع"
التي أينعت شهوتي
أنهض الآن
لأكتب قصيدة
تتولى هي وحدها
نبش الذاكرة
كمتشرد يبحث في ركام القمامة
عن شيء لا يعرفه

**********

بكل امتنان
للتبغ الذي يشاركني هواء غرفتي
للموسيقى الصاخبة
في عرس الجيران
للباب الذي لم يُطرق حتى الآن
ولجوالي الصامت كفأر ميت
للشبك البلاستيكي المضاد للبعوض
لفنجان القهوة الباردة
وللفرح الذي يداهمني الآن كذكرى قديمة
بكل امتنان للقلم الجاف
والضوء المتسرب من النافذة
أدخل قصيدتي
الخجولة
كبنت ترى لأول مرة فحلها
ليلة الدخلة
بكل امتنان لهذا الخواء
أكتب الآن أشياءاً
لا تعني أحد

**********

يتهمني البعض بالكفر
وبعض أكثر حناناً
ينعتني زير نساء
بعض لا أعرفه
يكيل لي المديح الفاتن
وبعض تقيٌّ
يتهمني بالبداوة
سأكتفي الآن
بلؤم الغاويات
يتهمنني بالذئب
وأقترح قصيدتي
التي تمشي على رؤوس قدميها
صوب سرير العازبة

**********

قصيدتي الفاقعة الظلال
سألونها كما يشاء
المؤمنون بضلال الشعر
من حاكموا مجازي
واتهموا استعارتي بالكفر
وحنيني بالبداوة
واعتناقي الأنوثة
بالمجون

**********

دون أن تخدش حياء الشارع
تمشي مطأطئة الرأس
ودون أن تلقي تحية الإسلام على أحد
أو تسرق النظر إلى كاحل امرأة
تصعد الدرج المرمري
دون أن تتذكر رائحة الحبق
في ثياب أبي
أو تلعب بملامحها أمام المرآة
دون أن تبتز كائنات الذاكرة
أو تلتفت إلى الضحكة خلفها
ستمضي قصيدتي صوب الخلاء
ككلب ينبح اللاشيء
في ليل شتائي مطبق العتمة

**********

أصبغ أظافرها بلون ليلكي
أمر على شفاهها بقلم أحمر
وبقلم أسود نحيل
أرسم حاجبيها
أنتف شعر ساقيها
أطعم الكحل أهدابها
أرش أبطيها بمزيل العرق
وأطلق الريح الساخنة في شعرها المجعد
أرخي ظلا شفقياً على أجفانها
وأطلقها قصيدتي بفستان وردي
تؤرجح ردفيها
على رصيف مزدحم
كبنت هوى
تتسوق في يوم أجازتها

**********

كأن سياقاً غابرا
تسرب إلى قصيدتي
أفتح الغوغل واكتب : (سرير العازبة)
لا شيء
سوى (سرير الغريبة) لدرويش
حسناً
رائحة أليفة
لا تكفي لتهمة أخرى
فالغريبة قد لا تكون عازبة
مع أن العازبة دائما غريبة
أمضي بقصيدتي
دون أن أحتاج إلى هامش
شاكرا الغوغل
على كل شيء

**********

مع أني مرتبك حد التلعثم
وكثير التردد على سوق الخضار
مع أني لا أملك أحيانا قوت يومي
وغير مطلع جاد على الفلسفة
مع أني خائف من بكرى
وغير قادر على السفر بعائلتي
في رحلة استجمام
مع أني متابع جيد لنشرات الطقس
وأدافع عن القصيدة النثرية
في ندوات حول التنمية
مع أني سأملك بيتي بعد أربعين عاما
إلا أني ثري بقصائد
لا تسمن ولا تغني من جوع
أحس أني ملك مخبول
حين أغزو اللغة في عقر دارها
وأصغي بأذن ثالثة لصفيرها
في قعر الروح

**********

مثلما في الذرة البكماء
يقرر الإلكترون
أن يطير من مدار إلى مدار
مثلما
يتجاسر النمل عل خف ناقة
مثلما يحدق الصوفي
في سديم الرغبة
مثلما أخفي كآبتي بورق السلوفان
تتسكع القصيدة
في وهمها المكتنز
تتكاثر
- كالسلاحف - مجهولةَ النسب
تُقطّر البلسم في عينيها
كي تهش الشبهة عن بهجتها
وتزغرد بملء حنجرتها
في مشرحة المعنى .

**********

لأنها قانصة الكوابيس البارعة
ورائقة المزاج
لأنها وثيرة كالماء
ومهندسة للخيال الحصيف
لأنها مشغولة عني بنئيج الريح
في برد النساء
ولأنها
القصيدة كلها
يحق لقصيدتي
أن تسجد على قبة ركبتها البيضاء
وتبكي
كطفلة
ذبلت في قدميها الحناء

**********

خطر على بالي
وأنا أبحث عن مقهى شعبي
في مراكش أنَّ :
النورَ وطن الظل
الريبةَ وطن السؤال
المعنى وطن الالتباس
السعادةَ وطن الخوف
العتمةَ وطن اللذة
ولا وطن
للقصيدة

**********

وأن :
البهجةَ زمن العطر
الرجفةَ زمن القبلة
اللوحةَ زمن اللون
ولا زمن
للشهوة
**********

اسمعني جيدا
ما أقوله ليس بالضرورة
هو ما تسمعه
لا تجب عن سؤالي
قبل أن أغادره .
دون ضغينة
أعطي بظهرك للمعنى
وعانق عفاريت الكلام
ودع سوء الفهم
مساقة بيننا
لنلتقي ثانية

*********

مضحك هذا التاريخ
الواثق من أوثانه
يتبختر في المكتبات
وفي أشداق المعلمين
مضحك
مذ كانت أمجاده المكتوبة
على السبورة السوداء
تحيلها اسفنجة
إلى غبار

**********

معلم الأحياء القدير
من كان يُشرّح الفراشة
بأصابع مرتعشة
لم يَشْرح ، ولا مرة ،
سر كرنفالها اللوني
ولا
ذاكرة الرحيق
التي تتقوض بين يديه

**********

نسيت أن أقول
في المقهى الشعبي
في مراكش
اكتشفت أيضاً
أن لا وطن
لي

**********

تأخرت يا وطني المبجل
انتظرك منذ قرون
على ناصية المقهى
مر متسول يشبهك .
مر حصان يجر عربة سواح
يشبهك .
وعكاز يقود أعمى يشبهك .
مرت بنت هوى
بجورب شفقي تشبهك
وسحابة دخان مرت
تشبهك .
انتظرك يا وطني منذ زمن
حتى صارت الأشباح
تشبهك .


سالم العوكلي
28 / 7 / 2009










الثلاثاء، 30 يونيو 2009

جدار متهالك


إضافة صورة
اللوحة للفنان باسم سليمان



أنا لا أتمرد
أخرج قليلاً
عن الطريق
كي أقضي حاجتي وأعود

السُلَّمُ المسندُ على جدار الصفيح
يذكرني بفخذ القروية
تطعم دجاجَها الملون

المرقد الذي لم آوِِِ إليه
منذ سنين
متعبٌ بشخير العابرين

أنا لا أحب المراقد العالية
لكن السُلَّمَ المنصوبَ
على جدار متهالك
يجعلني أرى
المشهدَ برمته .

الاثنين، 22 يونيو 2009

أيام ...


بيت شعر طالما ردده أبي ، وأذكر أني سمعته للمرة الأولى على الطريق العام بين قريتي القيقب ولالي ، حيث كان في تلك الفترة أحد العمال مسؤولاً عن كيلومتر من هذه الطريق ، يقوم بتنظيفه وصيانته يومياً :
اللي ما مشى ما عرف لرض ،
لا وردك عالمناهل .
واللي ما قرا ما عرف فرض ،
حتى ان تاب مازال جاهل .
كان عبر هذه الأبيات يحثني دائماً على السفر ، معتبراً إياه إحدى وسائل المعرفة ، ولا أعرف كيف تأتَى لهذا الشيخ الأمي مثل هذه الدراية بأهمية الترحال ، وهو المستقر طيلة عمره الذي ناهز المائة عام في منطقة محدودة من الجبل الأخضر ، لم يغادرها إلا سنوات مجبراً إلى معتقل العقيلة - شاباً في العشرين من عمره عاش سنواته المعتمة، يتيم الأب والأم - أو في فترة أدائه لمناسك الحج في أواخر الستينات ، تلك الفترة التي أراه للمرة الأولى يحمل حقيبة ، ويقف على جانب الطريق العام في انتظار سيارة تقله إلى مطار بنينة ، كنت ألهو بجانبه حين ودعني وركب سيارة أحد فاعلي الخير، وظللت أراقب رايته البيضاء المرفرفة فوق عامود بيت الشعر والتي كنا نخاف التفافها على السارية الصغيرة لأن عدم تحركها بانسياب مع الريح يعني أنه يعاني من مأزق في غربته ، حتى فاجأنا بعودته ونحن داخل البيت ودون أية مقدمات ، عاد بلقب الحاج ، وبصف من الأسنان الذهبية ، وبمزيد من النحافة والسمرة ، أتذكر ذلك كلما رأيت كرنفالات الحجاج الآن ، وحفلات التوديع والاستقبال الصاخبة ، وتأجير صالات المناسبات ، ومواكب السيارات التي ترفرف على مقدماتها الرايات البيضاء .
كان يبهرني لمعان أسنانه الذهبية وهو يتحدث للرفاق عن مغامرته في الأراضي المقدسة ، وعن رهبة تلك الأمكنة المشحونة بتاريخ الروح إلى أقصاها ، ومع السنين وبعد أن تساقطت أسنان أبي الذهبية الواحدة تلو الأخرى صار الحجاج العائدون من مكة يتحدثون بانبهار عن أبهة مطار جدة وعن المصاعد والأرصفة والمحلات الراقية ، وعن أحدث وسائل التقنية التي حل إبهارها ورهبتها بدل إبهار ورهبة الأماكن المقدسة ، التي لفها سحر من منتجات الحضارة الراهنة . كانت تلك تجربه سفره الاختيارية الوحيدة هو الشغوف بقيمة السفر الذي ما فتأ يحثني عنه ، وعند عودتي من سفري الأول إلى شرق آسيا ـ دون أن أترك راية بيضاء ترفرف خلفي ـ طلب مني أن أحدثه باستفاضة عن هذه التجربة ، فسردت له ما يصلح للسرد العائلي وهو يتفحص الصور التي أحضرتها معي ، إلى أن رماها فجأة بعيداً حين لاحت له صورتي وثعبان كبير يتدلى على كتفي وهو يقول : هذه هي اللي امتعبتك لآخر الدنيا . ولا أدري ربما حب أن يراني محتضناً كائناً آخر أكثر رقة وتعبيراً ، لكنني تذكرت أحد مواسم الحصاد حين أحضرت له ثعباناً حقيقياً وأنا فرح باصطياده ، فركض بعيداً وهو يقذفني بالحجارة ، واكتشفت للمرة الأولى إن أبي الذي كان يشكل لي رمزاً للشجاعة يخاف الثعابين إلى درجة الفوبيا ، غير أن أبي الذي أعتبره قدوتي في التسامح رأيته في مرة أخرى مشفقاً على ثعبان علق بغراء الفئران في مخزن الحبوب ،كان يحاول تخليصه بعكازه في لحظة ارتباك تخلط بين الخوف والرحمة ، لا أدري كيف استرسلت في هذا الحديث ، لكن ما يهمني هو ذلك المرسل التي تحمله أبيات الشعر عن أهمية السفر والقراءة للمعرفة ، وأيضاً ذلك الطريق العام النظيف والذي كان يقوم حوالي ألفا عامل بتنظيفه يومياً من رأس اجدير إلى مساعد والذي أصبح الآن دون تخطيط أو إشارات أو مصارف لمياه الأمطار تتعفن فوقه الحيوانات النافقة، كمؤشر لصعوبة التواصل التي نكابدها الآن على جميع الأصعدة.

السبت، 20 يونيو 2009

السكوت المتبادل


أذكر جيداً ذلك الشغف الذي عشته في ملاحقة تلك الكائنات الشفافة في أماسي الربيع الزاخرة بالروائح والألوان، كنت مولعاً إلى حد مرضي بمطاردة الفراشات مستجيباً لإغراء اللون وتنوعه وتلك الرفرفات العذبة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة ، وكنت اعتقد في قرارة نفسي أن لاشيء يجسد لي غموض الملائكة سوى هذه الكائنات ، التي ستفسر لي فيما بعد جوهر الشعر والفن ، إن أجنحتها تذوب بين يديك عندما تحاول الإمساك بها ، وهو ما يعتري القصيدة نفسها ، حين نحاول تفسيرها أو القبض عليها ، وعندما شاهدت أثناء الدراسة ولأول مرة معلم الأحياء وهو يقوم بتشريح فراشة ، تقوض الجمال في داخلي ، وولجت دون أن أدري جدلية معقدة بين مفهومي العلم والجمال ، وتكرس لدي رأي مهيمن بأن العلم مناقض للجمال أو عدو له ، ونتيجة لولعي المبكر بالأدب والشعر ، ووجود نفسي مضطراً لأسباب بيئية لدراسة المجال العلمي كنت أحاول أن أوفق من جديد بين شغفي وتخصصي، فكنت أتحسس مواقع الجمال في الدراسة العلمية ، في المعادلات الرياضية وجمال البرهنة عليها ، في علم الاحتمالات ، في نظريات الكم والنسبية ، وفي المعادلات الكيميائية ذات الاتساق الأخاذ ، وفي الوقت نفسه أصبحت أطالع ما يعرف بالمناهج العلمية الصارمة لنقد الأدب ، بل والذهاب إلى ان النص الأدبي لابد وان يمر على ورشة تنقله فضلاً عن الموهبة إلى ما يمكن أن يسمى بالصناعة ، ومنذ حادثة التشريح المريعة ، وأنا مسكون بحالة من التوجس من هذا السكوت المتبادل ( يسكت عالم الحشرات عن جمال الفراشة سكوت الشاعر عن خمائرها الهاضمة) .. كان هذا التداخل الذي بدأته مضطراً وكعزاء أخير لعدم قدرتي على التخصص في مجال شغفي ، ولهذا الصمت المتبادل بين حقلين اعتقدت أنهما على طرفي نقيض ، كان له دور في بعث أسئلة ما انفكت تلاحقني، خصوصاً أن وتيرة العصر المتسارعة لا تكاد تجيب عن سؤال حتى تحقن الإجابة نفسها بأسئلة أكثر تعقيداً . إن ما كان مجازاً متطرفاً أو استعارة حادة في الشعر يتحول في الخيال العلمي إلى إمكانية ، ثم لا يلبث أن يغدو واقعة ، كان الشاعر يغالي حين يقول لحبيبته أني أسمع صوتك وأنت في نهاية الأرض ، أو يزورني طيفك في ليالي الأرق وبيني وبينك بحار ومحيطات ، وهذا ما تحقق أخيراً بفعل العلم وتقنية الاتصالات ، وغدا المجاز ضرباً من الواقعية الفجة ، ومثلما تفتحت نوافذ كبيرة من الجمال في النظريات العلمية ، غدا الجمال نفسه موضوعياً ومحل دراسات علمية ، بل غدا الجمال صناعة من صناعات العصر الخاضعة لمتطلبات السوق والتداول ، وما نساء التلفزيون اللائي يخلبن الألباب إلا نتاج للمختبرات التي ما انفكت توظف الكيمياء في صناعة النساء اللائي تخيلهن الرومانسيون وهم في ذروة المغالاة، ثمة ما يبهج في ما يحدث ، وأيضاً ما يرعب، حين يتقوض هذا الجمال الأنثوي المحبوك بعيداً عن أصابع الكيمياء ، أو حين يخلع العلم معطفه الجمالي ويجتاح عالمنا الجميل بمتطلبات الضرورة والمصلحة . المعادلة صعبة لكنها ممكنة التحقيق حين نؤمن بأن المخ البشري مزود بفصوص للجمال تحتاج فقط إلى التنشيط عبر الموسيقى والرسم ومراقبة الفراشات في أماسي الربيع الدافئة .. وحين يصف عالم الحشرات في بحثه لون أجنحة الفراشة ، ويعبر الشاعر إلى باطنها ليستشف الممكنات العميقة للحياة .

الجمعة، 12 يونيو 2009

بقع على الوسادة










اللوحة للفنان زهرة المتروك


كسؤال منسي
النار المتروكة في الغابة
تنطفئ على مهل
**
تَلَعْثُمُ الحبر
في حضرة البياض
أخطاؤنا الإملائية

**
الكتب ..
التي تبقى على الطاولة
تشبه الأصدقاء
المتاخمين للروح
**
التبغ المتراكم في المطفأة
بقايا حريق قلب
لا يجيد الالتفات
**
في الليل ..
أنسى قسوة النهار
مثلما أنسى في الصباح
تفاصيل الكابوس
**
كخصر يلتهم الموسيقى
تهتز الستارة
في نسيم بارد
**
كالضباب
في الطرق الريفية
كالأغنية في فم الطفل،
كالفراشة في زحام المحطة
كقبلة الوداع في المطار،
كالاعتذار ..
كثيرا ما يتعثر الجمال
***
لا شيء يشبه الله
كطفل يصلي في الخلاء
أو رعشة الأيادي لحظة التصالح
لا شيء كالله
سوى دمعة تلمع في العين لحظة الوداع
**
كساحر حقيقي
وبرشاقة الظلال
يُقطِّع الطباخ المحترف
أصناف الخضار
وهو يحدث المشاهدين
عن مهنة صيد النكهات
من حقول العالم
**
كإله متقاعد
يقيس أبعاد الجسد
ويفض الخيّاطُ
بآلته القديمة
مضجعَ الألوان
الغافيةِ في القماش
**
الدلاء
الهابطة
الصاعدة
لا تجلب الماء فقط
لكنها تعلمنا
كيف نحدق في السماء
تحت أقدامنا
**
خفة يد السارق
ثقيلة على أرواحنا
كثافة يد الجلاد
خفيفة على أوراقنا
**
اللصوص الرشيقون
ليسوا مجرد كسالى
لكنهم يراكمون فناً
خارج القانون
**
بائعة الهوى الليبية
لا تقف شبه عارية على الرصيف
لا تمضع العلكة في زاوية البار المعتمة
.. ..
بغطاء كامل على الجسد
وبعينين جاسرتين
تثقبان الخمار الأسود
تعلن عن وطن اللذة في الظلام
** **
في أفريقيا السوداء
حين فتك صيادو العاج
بآلاف الأفيال
وُلِد جيل من الإناث
دون أنياب
**
يتحور الجسد
كي يقاوم الزوال
تنبطح الروح
كي تراوغ الرصاص
**
بصور الضفادع
سرد رسام ياباني
تاريخ الثورة الفرنسية
...
هل كان ساخراً
أم مفرطاً في تفاؤله ؟
...
أم كان يرسم
طريق المقصلة
بماء الزغاريد
**
تنزهوا قرب الجدران القديمة
اجمعوا من المال ما يكفي لغبطتكم
عاملوا النساء كآلهات
أيقظوا أصابع الحدس في كل عتمة
....
وصيتي لأبنائي
قبل أن يولدوا
**

معتكف للشاعر
حنين الطفل إلى مستقبله
معتكف للشاعر
حنين الكهل إلى ألعابه
معتكف للشاعر
الذاكرة التي تمحو
معتكف للشاعر
النسيان الذي يصحو
**
هناك
قرب المعبد المهجور
أتدرب يومياً
على عبادة نفسي
**
يرسم الطفل
على القماش أرجوحة فاتنة
تذوب اللوحة
حين يغسل يديه
**
يقلمون الشجر العتيق
في الميدان العام
ينزعون على السطوح
ريش الحمام
فتعتم الأرض ،
وتعتم السماء .
**
الرسام العراقي
الذي قضى في قصف على البصرة
ترك على جداري
لوحة مائية :
لوجه دون ملامح
يتلاشى في مدى صحراوي مكفهر
مطرزٍ بمقطع شعري للسياب :
" أما حملت إليك الريح
عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك
من الطوى
يعلو من السهل "
** **
حين تتلاشى المسافة
بين اللسان والأذن
نغنم لوحة
لا تثير سوى ..
الغرائز
**
تتفتق الفكرة
تنمو الأسئلة
يتناسل الشك
تزدهر الحضارات
في تلك المسافة
بين اللسان والأذن
**
حين يُقطع النور فجأة
دع حدسك يضيء المكان
**
حين يتكرر المشهد الغامض
تلمس سر التجربة
في ذاكرة الروح العميقة
**
حين يهدد العطن
أوهامك الملهمة
جرب مع الضحك
قليلا من العناد
**
المتع المسروقة
من غفلة الآخرين
ملهمة ...
كبقايا السكر
حول فم طفل
**
قرب دكان الأكفان
صيدلية ...
تبيع مسكنات الألم
ومقويات الخصوبة
....
قرب كآبتي
مذياع
يفتر عن موسيقى ساحرة
***
أشار صديقي
إلى مبنى الأمن المغلق على أسراره
وقال بمرح غابر:
هنا كان ملعب للتنس
وبار صغير
**
أشار إلى الوادي
الذي يقسم المدينة :
هنا كان جسر حجري قديم
ينقل عربات العرائس
من ضفة إلى ضفة
**
أشار إلى رجل في الشارع
يحدث نفسه :
هنا كان أب لطفلين
عاد من الحرب الخاسرة
بجرح في الروح
**
أشار إلى صدره :
هنا كان ثمة ما يتأهب
كشجر اللوز
للإزهار
**
أشار إلى
هيكل دراجة صغيرة :
هنا كان حلم ..
لم ير أباه
ولا الجسر القديم
ولا ملعب التنس
ولا زهرة القلب
أبداً ....
**
كان يكفيه خمس دقائق
ليولد على يد القابلة
وخمسة أيام
على درج السجل المدني
ليحصل على شهادة ميلاده.
**

علي صدقي عبد القادر
شاعر ليبي
ولا حتى مصادفة
لم يلتق باليأس
في حياته
**
الجيلاني طريبشان
شاعر ليبي
ولا بمحض الصدفة
لم يلتق بالأمل
في حياته
**** *
مازلتُ
أفتش عن غزالة تركض
في وطن يمتد
كسيرة نبي
بين أقصى اليأس
وأقصى الأمل
******


الخميس، 4 يونيو 2009

من أول السطر

(اللوحة للفنانة اللبنانية دلال حسن)





تتسع الحياة لكل شئ
للآثام ..
وللأعمال التي نعتقد أنها صالحة
كثيراً ما اندم على ما لا أفعله
انتشي برياء امرأة تدعي حبي
ـ زهور اللدائن لا تخلو من البهجة ـ
أو امرأة تلتقيني ..
لتثأر من خيانة حبيبها
الخيانة نزعة إنسانية
الكلاب لا تفعل ذلك ،
وأيضاً الأبواب
لا أكره أحداً
ولا أحب إلا من أحب
ليست الأمور شائكة لهذا الحد
والفئران لا تخلو من خفة ظل .
الروح يمكنها أن تتألق
في الصلاة
أو البار
أو عند المضاجعة
لا شئ يدعونا لأن نفكر ملياً ..
في أمور تقترحها الغر ائز

الزهد وجه آخر للترف ..
لا بأس من شرب الماء في آنية من الذهب
أو براحة الكف من جدول رقراق
أوه .. مفردة رقراق مبتذلة
لكن من حقها أن تبقى
نقر المطر على الصفيح ، أحبه
وأنا أتدثر امرأة دافئة
موسيقى مودزار عندما أكون وحيداً
نباح الكلاب حين أكون في انتظار حبيبتي
صوت يفون الماء بعد قضاء الحاجة
الضحك أيضاً عندما أُهزم
أحتاج أحياناً لمن يشتمني
ولا أنكر لذة إطراء لا أستحقه
أو اصطدام مقصود بامرأة على الرصيف
تتسع الحياة لأي شئ
الزهور ، القمامة ، الأولياء ، العاهرات
الأبطال ، الذباب ، الأطباء ……
ليس ثمة إلى آخره
وليس ثمة امرأة قبيحة
ولا أنثى لا يمكنها أن تهز السرير
لا شئ يدعونا للتورط في لعبة القيم
أو بيانات الخلاق المبوبة
كل ذلك من اختراع اللغة
أما الحياة فهي حياة
مساحة للخطاء والنزوات ،
للدناءة والنبل والسخرية
حين أؤمن بلحظات الضعف
وبجمال النفس الأمّارة
يمكنني أن أتجاور ،
و أن أحترم ما يزعجني في الآخرين
يمكنني أيضاً ..
أن أصافح رجلاً سرق مني صديقتي ،
أو أتأمل بعوضةً على ساعدي ،
وأتركها تطير
لا شئ يستحق الندم
فكل ما نفعله يُضاف إلينا
وكل ما نراه حولنا هويتنا
العري لحظة سؤال
والمكياج كذب أنيق
الحجاب عتمة تضيء الجسد
والموت ..
نقطة ومن اول السطر
تتسع الحياة لكل شئ
للآثام ..
وللأعمال التي ..
…………

الأربعاء، 3 يونيو 2009

الشعر هذا ..! نسّاج العتمة المعتوه

(اللوحة للفنان محمد زعطوط)
مصادفة وجدت نفسي يوماً ما ضمن طقس تمثل في جماعة من الفلاحين يؤدون صلاة الاستسقاء ، أطلقوا ادعيتهم إلى السماء القاحلة ومضوا محتفظين بالتراب على جباههم ، بعد ساعات قليلة، غيمت السماء وسقطت الأمطار بغزارة، فامتلأت وجوههم بالوحل والأمل ، كنت قبل ذلك بيوم شاهدت في نشرة الأخبار الجوية توقع سقوط أمطار غزيرة في المكان نفسه، وكان ظل من المفارقة المرحة يستيقظ في ذهني وأنا احتفل مع الصبية بسقوط المطر، وفي اللحظة تلك أحسست أنني أقبض على الكائن الشعري، وان روحي تتشرب برحيق جديد يشبه قوس قزح ، كان الفلاحون ـ والماء يتلون بالتراب على جباههم ـ يحسون أنهم تواصلوا مع السماء وجلبوا المطر بيأسهم، كانوا يكتشفون الإرادة في الضعف الإنساني وهم يدرجون أسطورتهم في ملعب الطبيعة المتعالية، وكنت أدرك في قرارة نفسي أن ما حدث كان متوقعاً قبل الصلاة ، وبين مرح الإنسان بأوهامه الكبيرة وغبطة التكهن الأرضي، الذي أحاله الشغف العقلي إلى إمكانية للتنبؤ، كان ذاك الكائن المضطرب يمد أطرافه في داخلي ، ويجعلني دائم الإصغاء لكل ما يؤكد جدارة الإنسان بالحياة ، ومستمتعاً بالمكوث عند كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر إيماناً بقوة الجمال الكامنة في كل الكائنات ..المنحى الذي يعزز مفهومنا عن الإلهي بوصفه ابتكاراً إنسانياً مستمرا، وعن الفن باعتباره لغز النزهة الإنسانية بين العارض والخالد، فلكل منا لغزه المراوغ ومحنته التي تليق به.. من هنا يبرر الشعر عزلته الأزلية ـ رغم ولع المحيط به ـ وغربته التي بها يمرر أسئلة الوجود المجازفة ، إن عراكه الأوحد مع سحر الألفة هو ما يحقق كينونته التي تجيد اختبار كل شيء ووضعه في منطقة التساؤل الطفولي الذي لا ينضب، وبالتالي ظل الشعر أكثر الحقول أخلاقية على مدى التــــــــاريخ، عبر انحيازه الجمالي إلى جوهر الإنسان المفارق وهوسه بالحرية ، يقول ليوباردي: "إذا ما عن لنا ان نكرم كتباً بعينها لقيمتها الأخلاقية فإنني اعتقد أن كتب الشعر هي الأجدى بالتكريم على الإطلاق " لذلك سيبدو لنا سؤال الشعر إشكالياً ومنغصاً، إذا ما ربطناه بالجدوى، أو المشاريع، أو فكرة المنجز .. إنه كائن حفار بعمىً ثاقب البصيرة، ينظر بازدراء لكل هذه الترسيمات ، ليس من شأنه اكتناه الأجوبة ، ولا إبداء الآراء، ولا صنع التاريخ ، ولا تفقيس الأفكار ،ولا الشهادة على العصر.. هو الكائن المسرف في لا مبالاته، وهو يفض بمثابرة قشور الوجود، دون أن تكون له فكرة عن ما وراء أية قشرة، ولا هدف له سوى أن ينقل كل ما سبق إلى ملعبه، وينفخ فيه من روحه، ليزيده غموضاً وقابلية للتوغل فيه من جديد، ليس الشعر في حاجة وظيفية لتبرير وجوده الأزلي ، إنه كينونة في حد ذاته، له سيرته الجينية الخاصة التي بها نشأ وبها يتطور ، يريد أحياناً أن يقول مباشرة ، لكن تأتأة السؤال الصعب تلاحقه ، فلا يملك إلا الخرس في وسط الزحام الذي يتوخى الفهم والطرب .. ويستبدل كينونته بالظل كلما حاولنا القبض عليه، ووسط كل هذه الصلابة والعته الذي يكابر به ، سيجعل ثيمات اللحظة تنزف من سديمه اللامتناهي ، ليس الشعر بعيداً عن الألم أو الوطن أو الأم أو العشيقة الهاربة، أو الندم أو الحق أو عبادة الذات أو هجائها ، ليس بعيداً حقاً عن التغزل في قهوة الصباح ، أو بحة امرأة لحظة نهوضها من النوم ، ليس بعيداً ، لكنه قريب كقرب الجفن من العين التي أبداً لن تراه ، يمر بلعابه على كل هذه التفاصيل فتبدو راهنة وأبدية، جلية وغامضة.. لأنه قناص الدهشة باستمرار وصائد اللحظات التي لا تتكرر ، والأهم من ذلك باعث الكائنات الخرساء في صمتها ، وحاقن الأشياء المحايدة بشهوة أن تكون وأن تهذي. إنه جليل كالتراب المتوسل على الجباه الظامئة، وواثق من نبوءته كفتاة جميلة توزع الأمطار على العالم في نشرة الطقس، وخلف كل هذه الطاقة العظيمة يظل الشعر كائن الزوايا المعتمة ونبات الظل الذي لا ينمو في الضوء الشديد ، قدره العزلة التي من خلالها يتسرب إلى النفوس التائقة له، في كل زمان ومكان.. موعده مع المتوحدين أينما كانوا ، ولأنهم أقلية هائلة يظل حياً ونافخاً رحيقه في أشد الأوقات ضراوة تجاه أرواحنا، في أزمنة الحرب والجوع والكوليرا، يقترح أوكتافيو باث: "في الماضي كان الناس يتحدثون مع الكون، أو كانوا يظنون أنهم يفعلون ذلك ، وحين كان لا يجيب فلأنه، على الأقل، كان مرآة لهم، وفي القرن العشرين اختفى المتحدث الغامض واختفت الأصوات الغامضة .. صار كل إنسان وحيداً في المدينة الهائلة، يتشارك في عزلته مع ملايين الوحيدين، إن بطل الشعر الجديد معتزل وسط حشود المعتزلين" هكذا تحدث باث .. وهكذا نفهم وهماً يراودنا بأن زمان الشعر انتهى، وإن لا احد يقرأ الشعر الآن ، لكن هذا التداول الخفي في زمن العزلة يجعل سوق الشعر هي العتمة نفسها، حيث يمكن أن نتحسسه دون أن نراه ، الشعر الحقيقي لا يحب الشمس، لأنه لا يرغب أن يكون عاكساً لضوئها ، لكنه شغوف بنسج خيوط الضوء من العتمة، ومنغمس في إيقاظ كل الحواس التي طالها البكم والتلوث، يرى وسط الظلام وينصت في قلب الصخب ويشم وسط الحرائق ويتلمس الأشباح بأصابع مبتورة ، ليس المعجزة ما يفعله لكن الطفل العنيد في داخله لا يتوقف عن إحراج الأجوبة الراشدة بأسئلته البسيطة والمربكة، هنا ينهض السؤال من جديد ـ يقول شاعر معتوه خرج من الكهف متوهماً أنه سيضيء العالم :هنا البرزخ الذي نستدربه إلى حتف الأجوبة .. ماذا نريد ؟ .. لماذا الشعر؟.. وكيف القصيدة التي تشيّد ماءنا العنيد؟ .. نحن الشعراء المنبوذين ، ننتبذ بياض الورق لنسفر عن أوهامنا .. نحوج الأرض التي كلما أمطرناها ربت .. نحتاج السنبلة المائلة في الشفق الحميم .. نحتاج قليلا من الحبر نلوّث به يقين العالم .. نسترسل في أحلام اليقظة لننحت المكان كما يشاء المجاز .. . ليس في مقدورنا ارتياد الغرف بحزن المراهقات ، وليس في مكنتنا قلب الأساطير التي تنبض قرب أسرّتنا .. فقط نشتهي .. وفقط نكذب حينما يكون الصدق قمار الواثقين .. نكذب فنقول : إنَ الطفل الذي قفز من النافذة كان يلاحق العصفور الملون ، وان المرأة التي عطّرت سريرها تنتظر الأشباح ، ونكذب لنقول أن الغبار شتائم الصحراء التي نخونها مع عشب الحدائق .. لنا هذا الوتر الذي نشده بين العقل وشهوة الروح، لنا هذا الحبل الذي تخفق فوقه ثياب التجربة.. نرمي عصانا في لهب الأغاني ونترك للبحر محاريث الأنبياء .. نحن الشعراء ربما.. نطرد الخوف بصفير القصائد .. يتبعنا الغاوون حين يكون الغيٌّ ارتياب .. نصبأ عن الجبال ونهيم في كل واد عميق .. نقول ما لانفعل فنخترع الحلم ، ونفعل ما لا نستطيع فنخترع الوهم .. نسمو بالنثر إلى القصيدة ونعيد إلى الجسد طقسه الوثني .. نهرّب الخيال في جواربنا .. نرسم في غرف دون سقوف ونمضغ نعناع البراءة كي لا تفوح رائحة الحلم من أفواهنا .. نغادر الطرق المدروبة إلى مسارب الغابة الطرشاء.. نُزوّج الشوك من ألق البحيرة، ونشطب بالفرشاة قضبان النافذة .. متراسنا الضحك.. نتفكه على الندم ونزرع أصابعنا ديناميت في غرف المعاجم .. حديقة الكلمات المروضة ونزهة المحايدين .. لنطلق كائناتها الهادئة في الشوارع الصاخبة ، وننزع من عيون الآخرين معانيها المؤجلة .
الجسد عبقرنا الكثيف .. برهان الروح .. مأوى الجنون وخارطة النص الذي يمارس نزواته على الملأ.. .. لماذا الشعر؟ .. سؤال بحجم لماذا نحن .. وما هو الشعر ، سؤال بحجم الوجود، هائل مثل بركان وهامس كعود ثقاب .. نكتب على ضوء الحرائق قصيدة البرد والسلام ، ونكتب في الطمأنينة قصيدة القلق .. أنيسنا الفزع حين يستبد بالعيون طحلب الرضا.. لا نريد شيئا .. ولا أن نكون شيئا .. مغامرين أو عباقرة .. فقط نغني بهدوء .. مبللين على الأشجار العارية .. ننعش خشب النساء المنتظرات طقس البكارة بغيم الحبر المتناسل في أرواحنا .. لا نريد شيئا ولا أن نكون .. فقط نحن كما نشاء .. وكما الحياة نفسها تعبث بكل يقين.

الجمعة، 8 مايو 2009

سالم العوكلي ــــــ اللوحة للفنانة سمر ذياب

صخب أبكم أو ماذا بيننا ؟

ظهري .. للعيون
الناكثةِ بنورها
ترابٌ لا ظلَّ منه
صخبُ لا صوتَ فيه
ومتاريسُ على عتبات البيوت.
تُهتُ ما يكفي ..
في مكاحل الليل
ووهبتُ فمي لرحيق العلكة
حتى انطفأ الكلام .
شَهْدٌ في خلايا الصمت لكنَّ ..
الصوتَ ظُفرُ اللسانِ ..
بوحُ الكائنِ بضوئه القاطن ..
قصباً تبرجت فيه الريح موالْ .
أنا ..
الناثر في دبيب الحبر روحي
لا أقوى ..
على هز غربال أعمى
ظهري لارتجاف البنادير ..
بين أرداف السكارى
صخب لا صوتَ فيه ..
ماءٌ تثاءب على مقعد الخشب.
عرقُ الغيم ملهمٌ ،
ندى الصفيحِ ،
جرسٌ أبكمْ ..
يتأرجح في سرير دون طفل .

كيف ألعب ،
واللغة يخسفها ضَنْكُ الخيالِ ؟
كيف أعبر إلى الشرفة المقابلة ،
واللسانُ دون ظُفرٍ ..
يتنزه في غسق الإناث ؟
علكةٌ دون سُكَّرِها ..
معضوضةٌ على الرصيفِ ،
أزهار تنزف ألوانها على القبور
أيقظيني حبيبتي
أينعي قهوة الصباح ..
على مرج يديك
حضري ..
مطرَ الدشِ النحيلَ ، وباعدي
بيني وبين دم البعوض على الجدارْ
باعدي
بين الشمس ،
وزبدة الليل الحميم
برمجي الحذاء ..
إلى دروبٍ لا تفضي ،
وانثري العطر تحت أقراطك
صوِّبي ريموتَ بهجتك
إلى كل خبرٍ حزينْ ،
سأنبح وحدي ..
كلَّ عابرٍ قربَ وسادتنا ،
سأُفلِّي حليبك من كل نَرْدٍ شاردٍ .
نهدُك الأيمنُ ..
في المرآة .. يسارُ الحديقة ،
وأصابع قدميك
المقلوعةُ من الحذاءِ ..
مشرقةٌ على كتفيّ .
أطيعي كل نداء للجنونِ ..
أيقظي الخميرةَ في كل صوتٍ لا يقول .
أعديني حبيبتي إليّ
هنا الأمكنةُ مشحوذة الحسك
تردُّ العاشقَ عن موعده الطري .
بيننا متر من الأوهام
نُجيره من كل يقين
بيننا منفضة ..
نحلب فيها رمادَ الأقنعة
وبيننا
لا شئْ
نُمهله إلى حين .
وقتٌ لفرار الروح ،
لازدهار الصمت بالمعنى ..
ماذا حقاً .. بيننا ؟
نعناعٌ مورقٌ في الأكوابِ
وأغنيةٌ بعيدة ..
أنا عندي حنين …
………
لفرار الروح من شِراكها
لانبلاج الصوت
من حزن العيون .
يونيو 2005




































الخميس، 7 مايو 2009

سالم العوكلي ــــــــــــ اللوحة للفنانة ظلال غزلان



هنري ميللر
يقول هنري ميلر في لقاء معه : أتمنى هذه الأيام إعادة قراءة حياة غوته ، وقصة حبه الأخيرة ، أريد أن أعرف بماذا أحس ـ ذاك الرجل العظيم والأوروبي العظيم ـ عندما وقع في غرام فتاة صغيرة رفضته ، في حين كان العالم بأسره يعتبره إلهاً .
رينيه دو مونترلان صاحب خماسية الصبايا والتي قرأتها بشغف في الثمانينات ، عرفت فيما بعد كيف أنتهت حياته ، رجل كان معبوداً للنساء للدرجة التي كان يملي شروطاً غريبة على من يراسلنه طلباً لقضاء ليلة واحدة معهن ، وعندما طاردته فتاة بعد أن تركت الكنيسة من أجل ليلة واحدة تقضيها معه ، قال لها من أرغب فيها يجب أن تكون : شقراء ، وطويلة ، ومكتنزة الوسط ، وغير مثقفة .. الخ ، وانت للأسف لا تملكين أياً من هذه المواصفات ، ويتحدث في الجزء الأخير من خماسيته عن رفيقته المغربية خديجة المصابة بالجذام ويعتبرها أفضل علاقاته على الإطلاق لأنها كانت تضاجعه دون أن تناقشه عن كتبه ، أو بالأحرى دون أن تعرف أنه كاتب .. هذا الرجل بعد أن بلغ الستينات تعثر في الشارع وسقط ، فضحكت فتاة جميلة كانت تمر بقربه ، ومن لحظتها عرف أن حياته يجب أن تتوقف ، فابتاع مسدساً وتابوتاً ، رقد في التابوت وأطلق عياراً على رأسه بعد أن ترك ورقة صغيرة حول الحادثة ،
هنري ميللر ـ الذي أحب في بداية مراهقته امرأة تكبره بخمس عشرة سنة ، وهو الحب الذي يسميه شفقة : (إنها تجربة حب باعثة على الرثاء لأنها تقوم على الرأفة ولم أكن قادراً على فراقها وذلك رأفة بها ، لا أريد تحطيمها وكل هذا بالنتيجة سيء جداً) ولاحقاً كما يقول كانت نساؤه أصغر منه سناً ـ يتمنى أن يعرف إحساس رجل عظيم رفضته فتاة صغيرة .. لا أعرف إن كان إحساسه مثل زوربا الذي يستمتع بالعلاقات حتى وإن كانت تقوم خارج جسده ، أو مثل فتحي الشويهدي الذي ترى بريق الفرح في عينيه عندما يحدثه آخر عن مغامرة جسدية ، وكأنك تحدث بدوياً عن سقوط أمطار حتى وإن كانت في أرض بعيدة عنه ، أم كان إحساس غوته مثل الطغاة الذين اعتقدُ أن طغيانهم متأتي عن حالات رفض مثل هذه ، هنري ميلر يبدو أنه لم يختبر مثل هذا الشعور ، لذلك أحب أن يقرأه في تجربة عظيم آخر أحس للحظة بأنه جدير بأن يحصل على كل شئ ، كانت ألوهيته تتأتى من منجزه الإبداعي المرتبط بالخلق ، لكن ثمة ألوهية أكثر رهبة وسمواً تنبع من كونك قادراً على أن تحب وبعمق في أي سن من عمرك، حتى وإن كان هذا الحب من طرف واحد ، عندما تحاصر امرأة تعتقد أنها وحيدة بلسانك المعسول وكل ما وهبتك البلاغة والشعر والتجربة ، وترد عليك بهدوء : أنت مثل أخي ، عليك أن تكتشف في هذه الهزيمة أشياء لا تقدر بثمن ، ولا تقارن بهزة سرير، ثمة دائما افتراضات خاطئة يجب أن تصفعك على وجهك ، ويقين يلوي في يدك مثل سلك نحاسي ، كان من البديهي والمنطقي والمسلم به أن تستجيب تلك الفتاة الصغير النكرة لرغبة غوته وتدخل التاريخ ، لكن المنطق يضرب في الصميم ، لأن الفتاة من الممكن أن تعبد غوته دون أن تعطيه روحها ، الروح ملكية خاصة ومنحها حتى للإله يعني فقدانها ، علينا أن نحاصرها داخلنا لننعش بها الجسد ، ونحفر فيها أوهامنا المبجلة . أحب هنري ميلر أن يعرف إحساس غوته ، لكن أحب أنا أن أعرف إحساس تلك الفتاة ، فأحاسيس غوتة نابعة من التاريخ والهالة والسلطة . نحن كثير اً ما نأسف دائماً لزواج غير متوازن ونرجعه لأصله المرضي ، عقدة إلكترا ، أو عقدة أوديب .. يبدو أن الحياة علمتنا التوازن ، والعلاقات المنطقية بشكل يجعلنا نعتبر كل ما ينتهكها مرضاً .. عقدنا مرة ندوة على هامش إحدى المهرجانات ، مجموعة من الكتاب الليبيين والعرب ، وكان المحور الأساسي ؛ أن يحدثنا كل شخص عن تجربته الجنسية الأولى ، وتسعون في المائة من التجارب كانت اغتصاباً في بداية الصبا من نساء ناضجات ، هل يرجع ذلك لضغط مجتمعات الكبت ، أم لعقدة أوديب مقلوبة ، أم للجو الآمن الذي يحيط بهذا الطقس بالنسبة للنساء ، أم لطقس أمومي يختبر نكهة اللذة المحرمة .. ما أعرفه أن التوازن والمنطق يضرب في صميمه ، وأن تجاربنا الأولى لا تخلو من الجنون الذي نستقبله بدهشة يشوبها الخوف .

الاثنين، 4 مايو 2009

عزف التجربة

اللوحة للفنانة : دلال حسن ترحيني

تلهمني الشمس حين تشرق :
أن أقول ما أفكر فيه ،
ولا أفكر في ما أقول .
أن أشعل لفافتي الأخيرة ..
قرب آنية السمك .
أن أعشق الأنبياء ..
لأنهم اقترحوا
شعر السماء

يلهمني الليل ..
حين يتسرب تحت الثياب
أن أسكن ..
في ضحكة امرأة ..
لا توصد الباب في وجه أحد ،
أن أمر من كأس الخمر ..
إلى أسرار الرفاق ،
وأكذب ..
ليغدو الأصدقاء ..
أكثر قربا.
أن أسرف في ولعي بالجسد ..
المصغي لعزف التجربة،
وأضيء كل مساء بموعد.

يلهمني المصعد الضيق ..
أن أتنفس ..
في عنق امرأة .. لا أعرفها،
وألمح في المرآة
عطر النزوات العجلى .
أن أتأمل ..
نور الأبواب ..
تُفتح دون أن نطرقها

تلهمني الأوراق اليابسة ..
أن أسأل ..
غير مأخوذ بإجابة ،
وأن أمشي ..
في هذه الأرض مرحا

تلهمني الحديقة ..
أن أكوي القميص الرخيص
والمؤشر صوب الحرير
وأن أغرق في شبر أنثى.

تلهمني الحرباء
أن أشرب..
العشب بقدميّ

يلهمني اللون الأسود
أن أمتص ..
قوس قزح .



الأحد، 3 مايو 2009

ما الذي يضحك فينا؟

اللوحة للفنانة زهرة المتروك
في خدمةِ كل وهم
يكتبني
أردُّ السلامَ على العابرينْ
واكتفي بوقتٍ قليلٍ
لاقترافِ السؤال
ما الذي يَضْحَكُ فينا ونعبرُه
ما الذي يَرقصُ في النافذةِ المقابلة
مَرَحِي الكثيرُ
مسكونٌ بخوفِ أصدقائي السُّكارى.
من أين تأتي كلُّ هذه الأشباحِ
إلى قعدتنا؟
وكيف تضئُ النكتةُ أرواحَنا
ثم ننطفئُ ؟
أُمجِّد النظرةَ
التي تقاومُ وَهَجَ المعاني..
أتَصَدَّقُ بدمي لأجسادٍ لا أعرفُها
وأنكُثُ بأوهامٍ
تدربْتُ على مشيتها في مُسْتهلِّ الحبرِ.
أنا هنا أترصَّدُ رَبْوَها
تلك التي أينعتْ في غيبتي ..
مشرعٌ لكل
عطلةٍ تمنحني للفِراشْ
لكل مَقْلَبٍ
يبذرُ الضَّحِكَ في وجوهِ الرفاقِ .
تربيتي جيدةْ ..
وأسراري مهدرةٌ في كل سَكْرةْ ..
مفكرتي مليئة بالأرقام المرفوعةِ عن الخدمةْ ..
غيرُ لائقٍ للخدمة الوطنية
وشبابي قضيتُه في لَعِبِ الورق .
متعَبٌ
لكني أريدُ لهذا الوجهِ
أخاديدَ بلا شوك ،
ولهذا الرأسِ مَنْجَمَ كُحْلٍ
وأريد لبنتي الوحيدةْ
أن تشربَ الموسيقى مع الإفطار .
ضوءٌ صغيرٌ
في آخر القلبِ
لكنه يكفي للتمعنْ
….

أنا هنا
لكني هناكْ
انتظرُ مجيءَ الأولادِ
لألعبْ

الجمعة، 24 أبريل 2009

ربيع درنة





أو ..
على سرج وثير
رديني إلى مَهْجَعٍ
أرى منه النجوم ..
إلى مرقد المنجل
تحت دثار من سنابلَ ..
أسكبُ الماء
على شحم الأيادي ..
مقايضاً
رغوة الصابون برحمة الوالدين ،
ومغدقاً زادي من الريبة
على كل وجه واثق ..

موقوت دمعي الخصب
برعشة مزمار
يتوضأ القلب
في لعابه الهادر ..
ليس بيدي
خرق المواعيد
التي تاجرت بوقتي ،
وليس بقدمي
سوى دروب
تحاشت وحل المسالخ
ومضت في السفوح
تترصد ساكنة الوادي البعيد ..
أمحو تجاعيد اليد
بكيروسين الموقد
سارداًعلى ضوء اليراعة
حنكةَ الظل
يرسم على الرواق كائنات لا تحد ..

ممشوقاً كمسواط رغوة
ولجتُ شوارع لا تفهم شعري ..
أحيك من صوف الخرافة
نور فتارينها ..
نورس يمتص روحي العزباء هناك ،
ومقالع حجر
يغفو على خشب النوافذ غبارها ..
مدينة تربت معي في القماط
أدخر في صندوقها عكازي
هائماً في شوارعها النحيلة
أجر الخطى
إلى كل جدار وردي
فترد بوحي أزقتها اللاطمة ..

من هنا
مر شاعرها الكاشف
حادي الوهم
إلى برتقال الوعود ..
ثَمِلٌ .. يلمع في نظارته
بريق وطن ،
وفي خطاه المائجة
قوافٍ تترنح في بحر يضيق ..
على برد المساطب
ألقَى حزمة الحطب
وغنى عيدها دون كعك ..
في كل مأتم له سؤال ،
ومن كل منور له دخان . .
عاث في رَوْعِ المدينة
خراباً حالماً
وزمجر برحاه
حيث الهمس مائدة الخائفين
ما طاق ليله دون خمر
ولا طاق السكوت !
من هنا مرت شعائر الجسد
المولع بالبخور ..
عين سوداء
تثقب عتمة اللحاف الأبيض !!
يتهادى
فوق الكاحل المترع
كرذاذ من النسيان ..
ونقر الكعب النحيل
يتلو على مسمع البلاط
آياته الخرساء ..
أو
هنا كان جرده الأبرص
مشتعلاً بالدفوف
يحصي بنات المدارس
على عقيق المسبحة
ذارفاً خوفه من عطن الفاكهة
تحت الجلابيب ..
آه .. يا صمت النحاس
كيف تتلمذ البارود على رائحة الياسمين ؟
وكيف اندثر الجسر القديم ؟
كيف تخثر السحلب
على الطاولة الفارغة ؟!
كيف تشرد الصيف في صمغ الرطوبة
باحثاً عن مقهاه الضليل ؟
كيف تقشرت حوافر الحصان
ومات في عربته الصهيل ؟
كيف استدار الزمان
وجار حبق الظل
على قامة النخيل ؟!

ليل المعادن كاسر كالريح
ريح المنارة
هامدة دون صفير ..
احمني من ضلالي فيك
يا قوت الذاكرة ،
يا أندلس المنفية فينا
آثمة في لوثة العِرْقِ
في لفتة الغريب
لا نثير الأضرحة يشفع لك ،
ولا الجهنمية
المطلة على الجار بالزهور ..
تائه غربالك في وبر الطحين ،
وحيض الوادي
نازف في البحر ورد السرير !!
يبكي السهارى شبابك ..
وما تبقى في الكؤوس
ذاهب في سواقي التجاعيد ..

على مهلك قليلاً
أعيد ترتيبك
كم كانت الأسماءُ عاتيةً
حين أحاق بك الغبار !
الأكواب تموج على السفرة
والطناجر قبعة الرؤوس ..
السور مُرٌّ على جلدك
تثقبينه بالسكر والرغيف ..
نام القرهمانلي تحت عرائشك
وسيفه في البحر صنارة لا تهتز ..
عَبَرَ الطغاة كرسيك الهزاز
وما رمش فيك كحل ..
آخر طلقة في المشط
وأمضي بجراحي في ظلام السوق ..
ليس يكفيني منك رقصة على خشب السدة ،
وليس يكفيك هذا النشيج ..
أنا النازل إليك من صفعة بعيدة
تعلمت فيك صخب الروائح
واقتسام المعابد لقلبك الفسيح ..
أنا النازل دون درع
أشم عطر السواني الموحلات ،
وأملأ من زفيرك صدري ..
فأحمني من هذا الصمت ،
ومن غبش العين في معانيك !
ليس بعد مأتم الزمن الجميل ،
وكلَّ ربيع يرشح العشب فيك من الصدوع ..
مبتلة كعهدك بالحبر
فأنصتي لخُطَى قلمي في وريدك ،
ولسرد الحجر في حيطانك القديمة ..
نقلي هواك حيث شئت ،
وانتعشي بشوق الكهول إلى طفولتك ..
أو
فألوي يد الزمن العذب ،
وقوديه إلى الغد موفور الرحيق ..

حُوتٌ على الأبواب ،
وحوت بالحناء على كف الجامحة فيك
حوت على كل نهد ،
وعلى الوسائد حوت
أقول
وثقوب القصب غائرة في الروح :
كيف جَمّعْتِ كلَّ هذي الدماء
دون أن تنكسري ؟
أقول ..
يا من تقوست فيك ظهور العابرين
يا من بنيت على كل رصيف
ماء السبيل ،
أقول يا من .. وأقول ياما
أقول :
بَرَدَ الحَساءُ في انتظار الطارق
ومالت الشمس
خلف منقارك العالي ..
فاقتربي من الآنية
ليس لك هذا الظمأ المزدهر ،
وليست لك السكاكين
اللامعة في خاصرات اليأس ..
ليست لك الفخاخ ،
وحلبات القبائل ..
ليس لك
سوى ما اخترعناه فيك ؛
منابت الطيش
جيرة الشرفات
قطارة الزهر
خمر التين
معزوفة الراعي
عطش النعناع
ومهطل الدراويش
في كترك الحميم ..
يا قبلة كل جائع
في زمن شُحِّ الرماد
أعطني فسحة
لأحلم فيك ..
أو
رديني إلى مهجع
أرى منه النجوم . ....

سالم العوكلي .. أكتوبر 2006










ليل درنة





الليل ….
ليل درنة
معطف للقلب الموارب
غابة تنحني فيها قامة الخوف قليلا
في كنف العتمة
نختلس الحياة
ونبني ..
سرو الضحك
خلف الأبواب المغلقة
الموسيقى ….
تخفت في مغزل العاشق
كي لا توقظ الجيران
خمر ليمونها الشفشي
تتنزه بين الشفاه
والنعناع مرابط على تخوم السهر
البنادير ترجف
في ضباب البخور
على ضاحية الكيف
تسلق صمت المعابد القديمة
الليل
ليل درنة
رطب … وغوير
يشخر على كتف الباطن
مقلوباً في جلده ..
يضئ أرق التبغ في أكشاكه الساهرة
ويشرب من عيون الدرناويات
لونه العتيق

بناته يهمسن في الهواتف
خزين الروح المراقة على برد الجدار
……
شرفات .. يمضغ الملح معدنها
وأقدام تترنح في شقوق الظلام
ظلال تستطيــــل
على ضوء عربات الشرطة
وتجهش بمائها ..
المسلوخ من عواء البحر

ليل درنة
ضيق على أحلام المراهقات
تعبر بطيئةً
رصيفه المزدحم بالعيون
تشاكسه ثقوب الضوء
في البيوت القديمة
صخب الرفاق
النابحين في هويد الليل أشباحهم
مِسْكُهُ
يتنفس تحت النوافذ ،
والأقراط .. تهبط بهدوء
تحت ضوء الوناسات الحميم
درنة غزيرة الروح ..
وذائبة كالسكر في شفاه التين
ليلها اللايكفي لرقصة أخرى
بابٌ توصده ..
على ثياب النهار
وتخفق بشَعرها الأسود
برد الحوش
مزماراً
يسكر الخصر الثري
وصلاةً
للمطر العنيد .

طقوس الظلام


1

كان عمري يناهز العشر سنين ، وكنت كوبوي صغيراً يرعى قطيعاً من الأبقار في أطراف الجبل الأخضر الذي مازال محتفظاً ببعض أشجار العرعر المتناثرة من بقايا تلك الغابة الطرشاء ، وبقايا صهاريج وكهوف رومانية قديمة ، كان النهار قائظاً فدخلت إحدى المغارات لأستظل بها ، قبو طويل بارد ورطب ومعتم ، يضيق كلما تعمقت به ، كانت تنصب به الشراك لحيوان صيد الليل الذي تغطي جلده إبر طويلة تسمى الشيص يستعملها للدفاع عن نفسه كلما أحس بالخطر فتتطاير كالنبال في كل اتجاه ، يشعلون النار في مدخل المغارة فيخرجه الدخان إلى الشرك المعد باتقان ، في تلك المغارة أخذني عند المساء سبات عميق ، وعندما صحوت وجدت نفسي في عتمة سوداء ، واصطدم رأسي بسقف المغارة الضحلة حين نهضت بسرعة وأنا لا اعرف مكاني ، خرجت زاحفاً وركضت مسرعا، وكانت تلك الواقعة أول صدامي مع عتمة بهذه الكثافة ، وكانت بدايتي خوفي من الظلام ، كنت أركض هاربا إلى عتمة أقل شراسة حيث بدت الأشياء في وميض الليل كأنها أشباح تلاحقني .

في مساء شتائي كنت نائماً بمفردي في منزلي القديم الذي يرجع بناؤه إلى العشرينات ، وأثناء نومي انقطع التيار الكهربائي ، وعندما نهضت وجدت نفسي بعد أكثر من ثلاثين عاماً في عتمة المغارة نفسها ، شئ واحد كان يختلف ، وهو أني أسمع صوت السيارات في الخارج ، فتحت الشباك لأجد العتمة في الشارع أكثر ألفة وطمأنينة ، مطعونة بسيوف لهبية من أضواء السيارات المتشابكة في الأفق المعتم ، تصبح الحياة بعدها محاولة دائبة لإضاءة العتمة المتطرفة بعتمة أقل ضراوة، من الممكن أن أرى فيها حدود أصابعي ووميض شاحب ومعبر للأشياء حولي يمدني بمعنى غامض للمكان الذي يعبر عن حضوره بشكل آخر حين لا يكون مرئياً ، في الظلام تتحفز الحواس ، فتتمدد الشبكية لامتصاص أكبر قدر من الضوء المتاح ، وتقوى حواس أخرى كالشم والسمع ، وتطغى الروائح والأصوات المنسية من الطفولة مجتاحة عالم الصخب الراهن ، لكن حاسة اللمس تغدو أكثر فعالية ، تلمس الأشياء لحظة أفولها يغدو هو الضوء الهادي إلى طريق لم تعد في متناول الرؤية .. عندما كنت أركض من المغارة في طريق معتم كانت أقدامي تتلمس درباً خبرته جيداً ، حتى لاح لي من بعيد ضوء الفنار المتسرب من ثقوب الصفيح كنجوم بعيدة ، كانت الأبقار قد عادت في موعدها ، وأمي التي اعتقدت أنني كنت كعادتي عند الجيران لم أحك لها ما حدث ، لكنها لاحظت أني طلبت منها تلك الليلة أن لا تطفئ الفنار ، وأغمضت عيني على كابوس: أركض في عتمة لا متناهية على طريق موحلة تلتصق بها قدماي ، يطاردني مجهولون يرونني جيداً ، وانا لا أرى شيئاً عداهم ، وكأنهم في بؤرة ضوء مسرحية ، ومراراً كان هذا الكابوس يتكرر كما هو ، وكنت استغرب عدم تكرار الأحلام المرحة في الوقت الذي تعيد فيه الكوابيس نفسها مراراً ، وكأنها مسجلة على شريط في الذاكرة ، في الفترة اللاحقة وفي المرحلة الإعدادية تحصلت على كتاب أصبح لا يفارقني وقرأته عشرات المرات، ورغم ذاكرتي الضعيفة في الكتب التي قرأتها إلا أنني مازلت أذكر غلافه المزين بفتاة جميلة وعنوانه عذراء للبيع لكاتبة ساذجة اسمها حياة إلقاق ، وما شدني في ذلك الكتاب هو مشاهده الجريئة والتي كتبتها أنثى ، وأكثر المشاهد التي كنت أتوقف عندها هو مشهد الطالبة التي كانت تحاول إغراء معلمها الملتزم ، وعندما آوت في ليل عاصف إلى فراشها انفتح مصراعا النافذه ، نهضت لتغلقها فوجدت المعلم القادم مع الريح بين يديها ، وضمهما سرير دافئ وسط عتمة مطبقة ، لم تره أو يرها لكن لغة اللمس التي وصفتها الكاتبة بدقة كانت الضوء الذي أنار تلك الليلة ، وتولدت في ذهني عتمة أخرى شاعرية ونابضة بالحياة واللذة ، عتمة متخيلة ستغدو فيما بعد مرقداً لأحلام اليقظة التي عبرها كتبت نصوصي الأولى ، فكنت مأخوذاً بهذا الظلام المؤنس الذي سيغدو حظوة عندما يمتلئ نهاري بالكوابيس التي تعيد نفسها مراراً ، العتمة التي يتصرف فيها الجسد بكينونته دون تفسير أو مراقبة لما يحدث ، تتحول الخلايا إلى مسام تنمو ببطء في ظلام ناعم كالصوف ، ويغدو إشعال الضوء مثل النار في مدخل المغارة طعنة لهذا الطقس الذي نتحرر فيه من العالم الخارجي ومن المحيط وننكفئ داخل ذواتنا مفعمين بذاكرة تجعلنا نمارس الأحلام في ذروة اليقظة ، لهذا ربما نحب لحظة غروب الشمس الأخاذ الذي سيسلمنا لعالم من الأنس الخفي فإذا الليل حميم وشهواني وإذا الصبح مطل كالحريق ، وربما لهذا تمتلئ الأشعار بالتغني بالليل وبالعين التي تلتوي أثناءه في داخلنا لنمعن جلياً في عالم كامل يقطن هذا الجسد المتعب من لهاث النهار . في الليل تأوي ظلالنا إلينا وتغادرنا الأوراح عبر الأحلام والرؤى التي تعيد مثل الفن كتابة الحياة النهارية عبر كولاج مختلط ووجوه تأتي وتغادر دون أن نعرفها ، مخزون الذاكرة يخرج على السطح زاخراً بالتأويل ليحقق كوجيتو الحالم كما يقول باشلار ، نعم على عتبة ميتافيزيقيا الليل كل شئ هو سؤال .

2

وفود من حجاج الظلام كانت تتهاطل على منطقة البردي حيث تم الإعلان عن كسوف كلي للشمس في هذه المنطقة ، والكل مترع بفضول مشاهدة الطبيعة وهي تخرج عن نسقها لثوان معدودة . والكل كان متشوقاً لأن يرى النجوم في عز الظهر .

معظم الدعايات التجارية والسياحية التي تتحدث عن كسوف الشمس ، تركز على أن هذا الحدث لن تتاح لك فرصة مشاهدته إلا مرة واحدة في حياتك ، وإنك محظوظ كون هذا الحدث النادر وقع في الفترة التي تعيش فيها.. لا يتعلق إغراء الكسوف وملاحقة العالم له عبر الأرض بالعتمة التي تحدث وسط النهار .. إن المجاز هو الذي يحركنا تجاه هذا الحدث ، مثلما يجذبنا صوب الفن .. أن تفاجئك العتمة في الظهيرة .. أن ترتدي الشمس للحظات خمارها وتغدو قرصاً أسود تحيطه هالة خفيفة من الضوء الخجول ، كل هذه صور من الممكن أن تكون من صلب الشعر ، أو بالأحرى يمتلئ بها مجاز الشعر ، وشغف الإنسان هنا يتمحور حول فرصة أن يكون أمام المجاز وجهاً لوجه .. أن يتحول المجاز أو الاستعارة إلى واقعة تُلتقط بجانبها الصور التذكارية ، ثوان مسروقة من قلب الليل ، ومنثورة كعينة في عز النهار .. والعالم يرحل صوب هذه الثواني قاطعاً آلاف الأميال ، حيث انفجار العلاقة الفنية بين المكان والزمان ، السفر عبر مكان شاسع للتمتع بزمن مقتضب يكاد لا يرى ، وفي هذا الزمن الومضة يغدو الإنسان مصلوباً على فرصة حياته النادرة ، التي تبدو كتفجير لغوي مكثف عبر نص نثري طويل وركيك ، إضافة إلى فرص أخرى تجعله يثأر من إمكاناته البسيطة أمام قوة الطبيعة ، مستمتعاً بهذا النشاز الأخاذ في النظام الكوني برمته ، مثلما يستمتع الشاعر المناوئ بكسر إيقاع شعري ممل ورتيب ، تكمن لذة الثأر في إمكانية التحديق بقوة في قرص الشمس المنطفئ أمامه في ذروة ارتفاعه ، لحظة ضعف أنثوية تستسلم فيها الشمس الجامحة أمام عيوننا ، ولحظة نستمتع فيها بارتباك الكائنات المبرمجة بساعة بيولوجية ، تعود الطيور ملتبسة إلى أوكارها ، لتركن إلى ليل قصير لا يكفي لنفض جناحها ، ارتباك هذا النظام ساحر.. وضرب الرتابة في صميمها ملهم لنا .. قال أحدهم : ما الذي يدفعني لأن أترك أعمالي وأسافر بعيداً لأتفرج على دقيقة من الظلام ، والظلام متاح في بيتي بكثافة ، وهو هنا بذاكرة خالية من جاذبية المجاز ، يجرد الحدث ويخلع عنه شعريته ، يرده إلى خامة الأسئلة التي تتوخى الجدوى ، والسؤال عن الجدوى طاعن للفن في جوهره ، وتكفي إيماءة ساذجة للإجابة عنه .

أعود إلى الدعاية التي تتوسل كون هذا الحدث لن تراه إلا مرة في العمر ، وكأن كل ما يحدث في حياتنا قابل للتكرار ، فلا شيء في عمر الإنسان إلا ويراه مرة واحدة .. وجه أنثى لا يمكنك أن تراه إلا مرة واحدة ، وشكل سحابة عابرة أيضاً .. وصورة وجهك في المرآة لا يمكن أن تراها كما هي مرتين ، قانون الاختلاف المنبثق من الحركة يجعل كل شيء جديد ، ورغم كل شعرية الكسوف التي ذكرت ، فإن شفق الشروق سيظل أكثر المشاهد فتنة وإثارة ، وأحب أن تحسب حياتي بكم شروق لا أن تحسب بكم كسوف عشته .

الأربعاء، 15 أبريل 2009

عادات طائشة ..


سالم العوكلي

وكر الشمع قريب من ثقابي
وعينُ القلب ..
جافلة عن كل ظل
فأدخليني على مهلٍ .
طريحَ الوهمِ
ما عاد السؤال يسلبني انتباهي
أحط ..
حيثما نثرتِ قمحَكِ
شفيعاً لكل نهد متربْ
صفيري وراء ضفيرتيك
مكسورٌ على الحصى
والقرية التي ..
أودعتُها زهر قفطانك..
تراودني
تُغلغِلُ سروَها في أراجيل المقاهي ،
تسخر من ريبتي في آخر العمرِ
ومن أطفالي ..
اليخافون الليل والضفادع .
بُحتُ لك ما يكفي ..
لكي تمضي دون التفاتٍ
ونسيت أني ..
في يقطينكِ
تعلمتُ ارتشافَ رُبِّ الحلمات ،
وأعقاب السجائر.
شاق عليَّ ..
المرورُ من قَصْلِكِ
دون أن أُخدشْ
وشاق عليَّ اليومَ
استراق الحبرِ
إلى هسيس التبن تحت لحمكِ .
أدخليني كما أنا ..
أجادل فيكِ
كلَّ أحمر رجيمْ
كلَّ أخضر شفافٍ ..
قارٍّ في بئره
كلَّ زعتر لاذع
كلَّ عسلٍ ..
مورقٍ في عينيكِ
وطن بعيــد .. بعيد
وظُفره في لحمي ..
أمشيه واثقاً
من بَرَكَةِ الغيم على أصابعي ،
من ترابك الضارعِ ..
لكل برق طائشْ .
عاداتي
ما عادت
تُربِّيكِ في قفصي ،
وألوانكِ فرت من اللوحةِ
واجتاحتْ خريفَ المعادنْ
أزرقُ
في قدميكِ ..
منذورٌ لفجوة الإلهْ
فرَتِّبي على مهل خُصَّكِ
وانتظري جوادي الخشبيَّ
انتظري العتمةَ ..
لنأوي إلى عرسنا الصغيرِ
لنمزُجَ لُعابينا
ونحمدَ الله ..
على الزغب الواقف دون عكازْ
***
يونيو 2005

قيثارة الصوف ..



سالم العوكلي

المنحوتة للفنان محمد زعطوط

جسد الأم منتشر في المحيط ، مغرق في سخائه الذي لا يعرف الوهن ، كل شئ متشرب به ، ومؤنث عبره ، مختلط عبر كيميائه الخاصة مع مفردات المكان ، ومعزوف بإتقان إلهي وبعذوبة إيقاع لا يهدأ إلا في عزلته ، كل شئ أذكره في طفولتي كان يمر عبر جسد الأم ، الحليب ، الملابس ، المأوى ، والطعام الطازج الذي تقضي ليلها تناجي على حواشيه الرحى بأغانيها، ويدها التي تطلي أجسادنا بالماء المحمول على ظهرها الذي في أرجوحته الوارفة كم تسلقت معها السفوح بحثاً عن البابونج والزعتر ، تستلم الصوف ساخناً من على ظهور الضأن ، وتبدأ مرحلة التكوين والعزف المفرد على أوتاره ، يتلوى تحت عصاها مخلوطاً بكلس الجبل المُعقِم ، وتجري خيوطه النحيلة بين أصابع قدمها ويدها لتلتف على المغزل الخشبي الذي يدور كترس على ساقها ، تمتد الخيوط صوب الشفق البرتقالي وهي تحبو على ردفيها خلف قيثارة الصوف الذي سوف ينتصب بيتاً مزخرفاً من الداخل بألوان انتحلتها من بقايا ملابسنا ، كل رقعة فيه مشحونة بذاكرة وحكاية ، مربعات من الألوان المتزاحمة ، لا يربطها شئ سوى مزاج الأم ومجازها لحظة الرفو ، في إحدى الشتاءات القاسية ، التي يهطل فيها الجليد بغزارة ، كنا نربض في بيت ربيعي من الشعر في إحدى سفوح لالي التي تقع في أعلى الجبل الأخضر ، تكورنا ليلتها جميعاً في مساحة صغيرة بين عامودي البيت ، حيث هناك الفضاء الوحيد الذي لا ينقط فيه البيت الماء البارد على أجسادنا ، نمنا جميعاً لكن أمي لم تنم ، قضت ليلتها تجرف الجليد المتراكم فوق نسيج البيت حتى لا يسقط فوقنا ، كانت تدور طيلة الليل القارس كرحى أو كمغزل لا يهدأ ، وفي الصباح أيقظتنا رائحة الحليب الفائر على الجمر الطازج ، وكانت كل البيوت في سفوح الوادي قد تهاوت وانتقل قاطنوها إلى الكهوف في منتصف الليل عدا بيتنا الذي ظل منتصباً كفطر عملاق وسط الجليد بفضل تلك العجوز القصيرة والعنيدة ، التي ألقت بجسدها في قلب البرد والعتمة لتحمي أجسادنا ، جسد الأم بوح بيولوجي ، وانتهاك غريزي وحميم لكل الكائنات المتاخمة له ، ملهَم باللذة والألم عبر تصدير ممكناته للآخرين ، ومفعم بخليط من الروائح المعبرة التي لا يمكن نسيانها ، روائح القرنفل والعنبر والدخان ، يلبي بافتتان رغبات الجميع دون إحساس بالتعب ، ينشطر كرافدي نهر دافق بين الأمومة واللذة ، بين السماء والأرض ، بين العبادة وتوق العالقين بردائها ، وقتها المزدحم بالإيثار هو مأتى صلاتها العجلى ، ونومها المتاخم لليقظة محرر للجسد الأخاذ من النسيان ، قبل رحيلها بأيام سردت لي على غير عادتها كل تفاصيل حياتها الضاجة ، وكأنها تودِعني أمانة سرد التجربة الحافلة ، تجربة امرأة عزلاء سوى من الحب عاشت شظف الحياة في مكان وعر ، طلبتُ منها تلبية لرغبة صديقي أحمد يوسف عقيلة الذي يعد كتاباً عن غناوة العلم أن أسجل منها بعض غناوي الرحى ، فكانت دون وعي تدير يدها على رحى وهمية كي تعيد الزمن وتتلو ما تيسر منها ( زنين هالقلب يريد .. رموات قمح ما فيهن غثر ) كانت تؤديها جارتها الصغيرة والجميلة التي أرغمت على الزواج من رجل يكبرها سناً ويعاني من عاهة ، وعندما سمعها فهم الرسالة وتركها تمضي في حالها ، كانت تسقط مفردات الرحى على ذاتها فالقلب هو القضيب الأوسط التي تدور حوله الرحى ، كان يحدث أنيناً ، لأنه يريد قمحاً دون شوائب ، وهكذا كان حالها ، كنت أحاول دائماً أن استعيد أغاني أمي لأعرف ما كانت تبثه من شكوى عبر ليلنا الموحش.

أيام ...

سالم العوكلي
بيت شعر طالما ردده أبي ، وأذكر أني سمعته للمرة الأولى على الطريق العام بين قريتي القيقب ولالي ، حيث كان في تلك الفترة أحد العمال مسؤولاً عن كيلومتر من هذه الطريق ، يقوم بتنظيفه وصيانته يومياً : اللي ما مشى ما عرف لرض ، لا وردك عالمناهل / واللي ما قرا ما عرف فرض ، حتى ان عاش مازال جاهل ) كان عبر هذه الأبيات يحثني دائماً على السفر ، معتبراً إياه إحدى وسائل المعرفة ، ولا أعرف كيف تأتَى لهذا الشيخ الأمي مثل هذه الدراية بأهمية الترحال ، وهو المستقر طيلة عمره الذي ناهز المائة عام في منطقة محدودة من الجبل الأخضر ، لم يغادرها إلا سنوات مجبراً إلى معتقل العقيلة الذي عاش سنواته شاباً في العشرين يتيم الأب والأم ، أو في فترة أدائه لمناسك الحج في أواخر الستينات ، تلك الفترة التي أراه للمرة الأولى يحمل حقيبة ، ويقف على الطريق في انتظار سيارة تقله إلى بنغازي ، كنت ألهو بجانبه حين ودعني وركب سيارة أحد فاعلي الخير، وظللت أراقب رايته البيضاء المرفرفة فوق عامود بيت الشعر والتي كنا نخاف التفافها على السارية الصغيرة لأن عدم تحركها بانسياب مع الريح يعني أنه يعاني من مأزق في غربته ، حتى فاجأنا بعودته ونحن داخل البيت ودون أية مقدمات ، عاد بلقب الحاج ، وبصف من الأسنان الذهبية ، وبمزيد من النحافة والسمرة ، أتذكر ذلك كلما رأيت كرنفالات الحجاج الآن ، وحفلات التوديع والاستقبال الصاخبة ، وتأجير صالات المناسبات ، ومواكب السيارات التي ترفرف على مقدماتها الرايات البيضاء .

كان يبهرني لمعان أسنانه الذهبية وهو يتحدث للرفاق عن مغامرته في الأراضي المقدسة ، وعن رهبة تلك الأمكنة المشحونة بتاريخ الروح إلى أقصاها ، ومع السنين وبعد أن تساقطت أسنان أبي الذهبية الواحدة تلو الأخرى صار الحجاج العائدون من مكة يتحدثون بانبهار عن مطار جدة وعن المصاعد والأرصفة والمحلات الراقية ، وعن أحدث وسائل التقنية التي حل إبهارها ورهبتها بدل إبهار ورهبة الأماكن المقدسة ، التي لفها سحر من منتجات الحضارة الراهنة ، كانت تلك تجربه سفره الاختيارية الوحيدة هو الشغوف بقيمة السفر الذي ما فتأ يحثني عليه ، وعند عودتي من سفري الأول إلى شرق آسيا ـ دون أن أترك راية بيضاء ترفرف خلفي ـ طلب مني أن أحدثه باستفاضة عن هذه التجربة ، فسردت له ما يصلح للسرد العائلي وهو يتفحص الصور التي أحضرتها معي ، إلى أن رماها فجأة بعيداً حين لاحت له صورتي وثعبان كبير يتدلى على كتفي وهو يردد : هذه هي اللي امتعبتك لحد الدنيا ، ولا أدري ربما حب أن يراني محتضناً كائناً آخر أكثر رقة وتعبيراً ، لكنني تذكرت أحد مواسم الحصاد حين أحضرت له ثعباناً حقيقياً وأنا فرح باصطياده ، فركض بعيداً وهو يقذفني بالحجارة ، واكتشفت للمرة الأولى إن أبي الذي كان يشكل لي رمزاً للشجاعة يخاف الثعابين إلى درجة الفوبيا ، غير أن أبي الذي أعتبره قدوتي في التسامح رأيته في مرة أخرى مشفقاً على ثعبان علق بغراء الفئران في مخزن الحبوب ، معتبراً إياه أكثر فاعلية في اصطياد الفئران من الغراء ، كان يتغلب على خوفه من أجل هذا الكائن الذي يبدو في تلك الحالة مفيداً ، لا أدري كيف استرسلت في هذا الحديث ، لكن ما يهمني هو ذلك المرسل التي تحمله أبيات الشعر عن أهمية السفر والقراءة للمعرفة ، وأيضاً ذلك الطريق العام النظيف والذي كان يقوم حوالي ألفا عامل بتنظيفه يومياً من رأس اجدير إلى مساعد والذي أصبح الآن دون تخطيط أو إشارات أو مصارف لمياه الأمطار تتعفن فوقه الحيوانات النافقة، كمؤشر لصعوبة التواصل التي نكابدها الآن على جميع الأصعدة.

الأحد، 12 أبريل 2009

A bench for two Lovers



By: Salem Al Okali


A desert swelling on the map..
Cities searching in the pockets of the unseen
For the keys of the century.
Streets narrow for the smoke of your cigarettes
Open terraces..
Deluded with the washing drizzle
On the pavement you bow
Under hanging meat
You pass with a woman
A driver gave her the way
In return for the light of her legs.
Posters on the walls
Workers on the side of livelihood
Consuming coals of the narghiles.
Italian shoes
Don’t understand the language of our streets.
Lovers pretending to be relatives
And kisses postponed to the next century.
Boys pushing to the dream
Carts of tobacco.
And girls happy with the small breasts.
Hot phones till the morning..
Waiting for the residential crises to be solved.
And mosques minarets..
Promising the patients for a peaceful judgment day,
And paupers idealizing the failure
And feel satisfied with praising Manhood.
Ready identity cards in pockets
And you..
At the end of the café
Cursing the government
Because the tea is without foam.
Your impossible girl
Wasting her body in fitting rooms,
And the bad liquors..
Is not enough for your absence..
As soon as the others see you
They swallow your stature
And stagger..
Luxury vehicles
Snatching the girls from the trap of the poems.
Despite the well chosen words,
And the tidy pens in the shirt’s pocket
And your subjective critique of renowned poets
The new girl friend tells you:
That a comfortable chair
Is better than a vague poem
And you lose because you’re like this,
And because the half opened stores..
are vigilant against Gheble and thieves.
In your pocket a shopping list
And in your head a list of prohibited items,
In your hand a broken watch,
And a ring that drives away the admirers
Remember..
Your early arrival to your job
Doesn’t mean that you woke up
And the children that slept all the day
Will hunt your pleasure…
next night.
Your jealous wife..
Cleans your clothes from beach’s tar
And your eyes from the pictures of female presenters.
Remember...
What lights your room
Isn’t necessarily...
the glow of your early sleeping woman
You spend your night waiting for a poem
And on the steps of the court
You spend your day waiting for a fresh divorcee
Thus, terror hits you
While you struggle for the scene
And you smell in the eyes…
The forest fire
And you search the city
For a bench for two lovers
And you’re inspecting your friend’s comic drawings
More terror hits you
When you return back home
Without crossing off the list:
You have to bleed a lot..
So, your sleep becomes lighter.
You have to draw a sober frown
Thus, laughing kills the heart
You have to invent your secret name
To each new lover
You have to fade the window’s light
And plant an eyehole in your door
You have to insert your knife
In the woman’s body
To test her sweetness
You have what you have
Before you meet –face to face-
Your lean face
A wound, the size of the mirror
A vast homeland
Without a place to make love
A window..
At the end of the corridor
Listening to the footfall of foreign shoes
And a desert
Swelling
In the heart

And on the map