السبت، 20 يونيو 2009

السكوت المتبادل


أذكر جيداً ذلك الشغف الذي عشته في ملاحقة تلك الكائنات الشفافة في أماسي الربيع الزاخرة بالروائح والألوان، كنت مولعاً إلى حد مرضي بمطاردة الفراشات مستجيباً لإغراء اللون وتنوعه وتلك الرفرفات العذبة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة ، وكنت اعتقد في قرارة نفسي أن لاشيء يجسد لي غموض الملائكة سوى هذه الكائنات ، التي ستفسر لي فيما بعد جوهر الشعر والفن ، إن أجنحتها تذوب بين يديك عندما تحاول الإمساك بها ، وهو ما يعتري القصيدة نفسها ، حين نحاول تفسيرها أو القبض عليها ، وعندما شاهدت أثناء الدراسة ولأول مرة معلم الأحياء وهو يقوم بتشريح فراشة ، تقوض الجمال في داخلي ، وولجت دون أن أدري جدلية معقدة بين مفهومي العلم والجمال ، وتكرس لدي رأي مهيمن بأن العلم مناقض للجمال أو عدو له ، ونتيجة لولعي المبكر بالأدب والشعر ، ووجود نفسي مضطراً لأسباب بيئية لدراسة المجال العلمي كنت أحاول أن أوفق من جديد بين شغفي وتخصصي، فكنت أتحسس مواقع الجمال في الدراسة العلمية ، في المعادلات الرياضية وجمال البرهنة عليها ، في علم الاحتمالات ، في نظريات الكم والنسبية ، وفي المعادلات الكيميائية ذات الاتساق الأخاذ ، وفي الوقت نفسه أصبحت أطالع ما يعرف بالمناهج العلمية الصارمة لنقد الأدب ، بل والذهاب إلى ان النص الأدبي لابد وان يمر على ورشة تنقله فضلاً عن الموهبة إلى ما يمكن أن يسمى بالصناعة ، ومنذ حادثة التشريح المريعة ، وأنا مسكون بحالة من التوجس من هذا السكوت المتبادل ( يسكت عالم الحشرات عن جمال الفراشة سكوت الشاعر عن خمائرها الهاضمة) .. كان هذا التداخل الذي بدأته مضطراً وكعزاء أخير لعدم قدرتي على التخصص في مجال شغفي ، ولهذا الصمت المتبادل بين حقلين اعتقدت أنهما على طرفي نقيض ، كان له دور في بعث أسئلة ما انفكت تلاحقني، خصوصاً أن وتيرة العصر المتسارعة لا تكاد تجيب عن سؤال حتى تحقن الإجابة نفسها بأسئلة أكثر تعقيداً . إن ما كان مجازاً متطرفاً أو استعارة حادة في الشعر يتحول في الخيال العلمي إلى إمكانية ، ثم لا يلبث أن يغدو واقعة ، كان الشاعر يغالي حين يقول لحبيبته أني أسمع صوتك وأنت في نهاية الأرض ، أو يزورني طيفك في ليالي الأرق وبيني وبينك بحار ومحيطات ، وهذا ما تحقق أخيراً بفعل العلم وتقنية الاتصالات ، وغدا المجاز ضرباً من الواقعية الفجة ، ومثلما تفتحت نوافذ كبيرة من الجمال في النظريات العلمية ، غدا الجمال نفسه موضوعياً ومحل دراسات علمية ، بل غدا الجمال صناعة من صناعات العصر الخاضعة لمتطلبات السوق والتداول ، وما نساء التلفزيون اللائي يخلبن الألباب إلا نتاج للمختبرات التي ما انفكت توظف الكيمياء في صناعة النساء اللائي تخيلهن الرومانسيون وهم في ذروة المغالاة، ثمة ما يبهج في ما يحدث ، وأيضاً ما يرعب، حين يتقوض هذا الجمال الأنثوي المحبوك بعيداً عن أصابع الكيمياء ، أو حين يخلع العلم معطفه الجمالي ويجتاح عالمنا الجميل بمتطلبات الضرورة والمصلحة . المعادلة صعبة لكنها ممكنة التحقيق حين نؤمن بأن المخ البشري مزود بفصوص للجمال تحتاج فقط إلى التنشيط عبر الموسيقى والرسم ومراقبة الفراشات في أماسي الربيع الدافئة .. وحين يصف عالم الحشرات في بحثه لون أجنحة الفراشة ، ويعبر الشاعر إلى باطنها ليستشف الممكنات العميقة للحياة .