الاثنين، 22 يونيو 2009

أيام ...


بيت شعر طالما ردده أبي ، وأذكر أني سمعته للمرة الأولى على الطريق العام بين قريتي القيقب ولالي ، حيث كان في تلك الفترة أحد العمال مسؤولاً عن كيلومتر من هذه الطريق ، يقوم بتنظيفه وصيانته يومياً :
اللي ما مشى ما عرف لرض ،
لا وردك عالمناهل .
واللي ما قرا ما عرف فرض ،
حتى ان تاب مازال جاهل .
كان عبر هذه الأبيات يحثني دائماً على السفر ، معتبراً إياه إحدى وسائل المعرفة ، ولا أعرف كيف تأتَى لهذا الشيخ الأمي مثل هذه الدراية بأهمية الترحال ، وهو المستقر طيلة عمره الذي ناهز المائة عام في منطقة محدودة من الجبل الأخضر ، لم يغادرها إلا سنوات مجبراً إلى معتقل العقيلة - شاباً في العشرين من عمره عاش سنواته المعتمة، يتيم الأب والأم - أو في فترة أدائه لمناسك الحج في أواخر الستينات ، تلك الفترة التي أراه للمرة الأولى يحمل حقيبة ، ويقف على جانب الطريق العام في انتظار سيارة تقله إلى مطار بنينة ، كنت ألهو بجانبه حين ودعني وركب سيارة أحد فاعلي الخير، وظللت أراقب رايته البيضاء المرفرفة فوق عامود بيت الشعر والتي كنا نخاف التفافها على السارية الصغيرة لأن عدم تحركها بانسياب مع الريح يعني أنه يعاني من مأزق في غربته ، حتى فاجأنا بعودته ونحن داخل البيت ودون أية مقدمات ، عاد بلقب الحاج ، وبصف من الأسنان الذهبية ، وبمزيد من النحافة والسمرة ، أتذكر ذلك كلما رأيت كرنفالات الحجاج الآن ، وحفلات التوديع والاستقبال الصاخبة ، وتأجير صالات المناسبات ، ومواكب السيارات التي ترفرف على مقدماتها الرايات البيضاء .
كان يبهرني لمعان أسنانه الذهبية وهو يتحدث للرفاق عن مغامرته في الأراضي المقدسة ، وعن رهبة تلك الأمكنة المشحونة بتاريخ الروح إلى أقصاها ، ومع السنين وبعد أن تساقطت أسنان أبي الذهبية الواحدة تلو الأخرى صار الحجاج العائدون من مكة يتحدثون بانبهار عن أبهة مطار جدة وعن المصاعد والأرصفة والمحلات الراقية ، وعن أحدث وسائل التقنية التي حل إبهارها ورهبتها بدل إبهار ورهبة الأماكن المقدسة ، التي لفها سحر من منتجات الحضارة الراهنة . كانت تلك تجربه سفره الاختيارية الوحيدة هو الشغوف بقيمة السفر الذي ما فتأ يحثني عنه ، وعند عودتي من سفري الأول إلى شرق آسيا ـ دون أن أترك راية بيضاء ترفرف خلفي ـ طلب مني أن أحدثه باستفاضة عن هذه التجربة ، فسردت له ما يصلح للسرد العائلي وهو يتفحص الصور التي أحضرتها معي ، إلى أن رماها فجأة بعيداً حين لاحت له صورتي وثعبان كبير يتدلى على كتفي وهو يقول : هذه هي اللي امتعبتك لآخر الدنيا . ولا أدري ربما حب أن يراني محتضناً كائناً آخر أكثر رقة وتعبيراً ، لكنني تذكرت أحد مواسم الحصاد حين أحضرت له ثعباناً حقيقياً وأنا فرح باصطياده ، فركض بعيداً وهو يقذفني بالحجارة ، واكتشفت للمرة الأولى إن أبي الذي كان يشكل لي رمزاً للشجاعة يخاف الثعابين إلى درجة الفوبيا ، غير أن أبي الذي أعتبره قدوتي في التسامح رأيته في مرة أخرى مشفقاً على ثعبان علق بغراء الفئران في مخزن الحبوب ،كان يحاول تخليصه بعكازه في لحظة ارتباك تخلط بين الخوف والرحمة ، لا أدري كيف استرسلت في هذا الحديث ، لكن ما يهمني هو ذلك المرسل التي تحمله أبيات الشعر عن أهمية السفر والقراءة للمعرفة ، وأيضاً ذلك الطريق العام النظيف والذي كان يقوم حوالي ألفا عامل بتنظيفه يومياً من رأس اجدير إلى مساعد والذي أصبح الآن دون تخطيط أو إشارات أو مصارف لمياه الأمطار تتعفن فوقه الحيوانات النافقة، كمؤشر لصعوبة التواصل التي نكابدها الآن على جميع الأصعدة.