الثلاثاء، 30 يونيو 2009

جدار متهالك


إضافة صورة
اللوحة للفنان باسم سليمان



أنا لا أتمرد
أخرج قليلاً
عن الطريق
كي أقضي حاجتي وأعود

السُلَّمُ المسندُ على جدار الصفيح
يذكرني بفخذ القروية
تطعم دجاجَها الملون

المرقد الذي لم آوِِِ إليه
منذ سنين
متعبٌ بشخير العابرين

أنا لا أحب المراقد العالية
لكن السُلَّمَ المنصوبَ
على جدار متهالك
يجعلني أرى
المشهدَ برمته .

الاثنين، 22 يونيو 2009

أيام ...


بيت شعر طالما ردده أبي ، وأذكر أني سمعته للمرة الأولى على الطريق العام بين قريتي القيقب ولالي ، حيث كان في تلك الفترة أحد العمال مسؤولاً عن كيلومتر من هذه الطريق ، يقوم بتنظيفه وصيانته يومياً :
اللي ما مشى ما عرف لرض ،
لا وردك عالمناهل .
واللي ما قرا ما عرف فرض ،
حتى ان تاب مازال جاهل .
كان عبر هذه الأبيات يحثني دائماً على السفر ، معتبراً إياه إحدى وسائل المعرفة ، ولا أعرف كيف تأتَى لهذا الشيخ الأمي مثل هذه الدراية بأهمية الترحال ، وهو المستقر طيلة عمره الذي ناهز المائة عام في منطقة محدودة من الجبل الأخضر ، لم يغادرها إلا سنوات مجبراً إلى معتقل العقيلة - شاباً في العشرين من عمره عاش سنواته المعتمة، يتيم الأب والأم - أو في فترة أدائه لمناسك الحج في أواخر الستينات ، تلك الفترة التي أراه للمرة الأولى يحمل حقيبة ، ويقف على جانب الطريق العام في انتظار سيارة تقله إلى مطار بنينة ، كنت ألهو بجانبه حين ودعني وركب سيارة أحد فاعلي الخير، وظللت أراقب رايته البيضاء المرفرفة فوق عامود بيت الشعر والتي كنا نخاف التفافها على السارية الصغيرة لأن عدم تحركها بانسياب مع الريح يعني أنه يعاني من مأزق في غربته ، حتى فاجأنا بعودته ونحن داخل البيت ودون أية مقدمات ، عاد بلقب الحاج ، وبصف من الأسنان الذهبية ، وبمزيد من النحافة والسمرة ، أتذكر ذلك كلما رأيت كرنفالات الحجاج الآن ، وحفلات التوديع والاستقبال الصاخبة ، وتأجير صالات المناسبات ، ومواكب السيارات التي ترفرف على مقدماتها الرايات البيضاء .
كان يبهرني لمعان أسنانه الذهبية وهو يتحدث للرفاق عن مغامرته في الأراضي المقدسة ، وعن رهبة تلك الأمكنة المشحونة بتاريخ الروح إلى أقصاها ، ومع السنين وبعد أن تساقطت أسنان أبي الذهبية الواحدة تلو الأخرى صار الحجاج العائدون من مكة يتحدثون بانبهار عن أبهة مطار جدة وعن المصاعد والأرصفة والمحلات الراقية ، وعن أحدث وسائل التقنية التي حل إبهارها ورهبتها بدل إبهار ورهبة الأماكن المقدسة ، التي لفها سحر من منتجات الحضارة الراهنة . كانت تلك تجربه سفره الاختيارية الوحيدة هو الشغوف بقيمة السفر الذي ما فتأ يحثني عنه ، وعند عودتي من سفري الأول إلى شرق آسيا ـ دون أن أترك راية بيضاء ترفرف خلفي ـ طلب مني أن أحدثه باستفاضة عن هذه التجربة ، فسردت له ما يصلح للسرد العائلي وهو يتفحص الصور التي أحضرتها معي ، إلى أن رماها فجأة بعيداً حين لاحت له صورتي وثعبان كبير يتدلى على كتفي وهو يقول : هذه هي اللي امتعبتك لآخر الدنيا . ولا أدري ربما حب أن يراني محتضناً كائناً آخر أكثر رقة وتعبيراً ، لكنني تذكرت أحد مواسم الحصاد حين أحضرت له ثعباناً حقيقياً وأنا فرح باصطياده ، فركض بعيداً وهو يقذفني بالحجارة ، واكتشفت للمرة الأولى إن أبي الذي كان يشكل لي رمزاً للشجاعة يخاف الثعابين إلى درجة الفوبيا ، غير أن أبي الذي أعتبره قدوتي في التسامح رأيته في مرة أخرى مشفقاً على ثعبان علق بغراء الفئران في مخزن الحبوب ،كان يحاول تخليصه بعكازه في لحظة ارتباك تخلط بين الخوف والرحمة ، لا أدري كيف استرسلت في هذا الحديث ، لكن ما يهمني هو ذلك المرسل التي تحمله أبيات الشعر عن أهمية السفر والقراءة للمعرفة ، وأيضاً ذلك الطريق العام النظيف والذي كان يقوم حوالي ألفا عامل بتنظيفه يومياً من رأس اجدير إلى مساعد والذي أصبح الآن دون تخطيط أو إشارات أو مصارف لمياه الأمطار تتعفن فوقه الحيوانات النافقة، كمؤشر لصعوبة التواصل التي نكابدها الآن على جميع الأصعدة.

السبت، 20 يونيو 2009

السكوت المتبادل


أذكر جيداً ذلك الشغف الذي عشته في ملاحقة تلك الكائنات الشفافة في أماسي الربيع الزاخرة بالروائح والألوان، كنت مولعاً إلى حد مرضي بمطاردة الفراشات مستجيباً لإغراء اللون وتنوعه وتلك الرفرفات العذبة التي تنتقل من زهرة إلى زهرة ، وكنت اعتقد في قرارة نفسي أن لاشيء يجسد لي غموض الملائكة سوى هذه الكائنات ، التي ستفسر لي فيما بعد جوهر الشعر والفن ، إن أجنحتها تذوب بين يديك عندما تحاول الإمساك بها ، وهو ما يعتري القصيدة نفسها ، حين نحاول تفسيرها أو القبض عليها ، وعندما شاهدت أثناء الدراسة ولأول مرة معلم الأحياء وهو يقوم بتشريح فراشة ، تقوض الجمال في داخلي ، وولجت دون أن أدري جدلية معقدة بين مفهومي العلم والجمال ، وتكرس لدي رأي مهيمن بأن العلم مناقض للجمال أو عدو له ، ونتيجة لولعي المبكر بالأدب والشعر ، ووجود نفسي مضطراً لأسباب بيئية لدراسة المجال العلمي كنت أحاول أن أوفق من جديد بين شغفي وتخصصي، فكنت أتحسس مواقع الجمال في الدراسة العلمية ، في المعادلات الرياضية وجمال البرهنة عليها ، في علم الاحتمالات ، في نظريات الكم والنسبية ، وفي المعادلات الكيميائية ذات الاتساق الأخاذ ، وفي الوقت نفسه أصبحت أطالع ما يعرف بالمناهج العلمية الصارمة لنقد الأدب ، بل والذهاب إلى ان النص الأدبي لابد وان يمر على ورشة تنقله فضلاً عن الموهبة إلى ما يمكن أن يسمى بالصناعة ، ومنذ حادثة التشريح المريعة ، وأنا مسكون بحالة من التوجس من هذا السكوت المتبادل ( يسكت عالم الحشرات عن جمال الفراشة سكوت الشاعر عن خمائرها الهاضمة) .. كان هذا التداخل الذي بدأته مضطراً وكعزاء أخير لعدم قدرتي على التخصص في مجال شغفي ، ولهذا الصمت المتبادل بين حقلين اعتقدت أنهما على طرفي نقيض ، كان له دور في بعث أسئلة ما انفكت تلاحقني، خصوصاً أن وتيرة العصر المتسارعة لا تكاد تجيب عن سؤال حتى تحقن الإجابة نفسها بأسئلة أكثر تعقيداً . إن ما كان مجازاً متطرفاً أو استعارة حادة في الشعر يتحول في الخيال العلمي إلى إمكانية ، ثم لا يلبث أن يغدو واقعة ، كان الشاعر يغالي حين يقول لحبيبته أني أسمع صوتك وأنت في نهاية الأرض ، أو يزورني طيفك في ليالي الأرق وبيني وبينك بحار ومحيطات ، وهذا ما تحقق أخيراً بفعل العلم وتقنية الاتصالات ، وغدا المجاز ضرباً من الواقعية الفجة ، ومثلما تفتحت نوافذ كبيرة من الجمال في النظريات العلمية ، غدا الجمال نفسه موضوعياً ومحل دراسات علمية ، بل غدا الجمال صناعة من صناعات العصر الخاضعة لمتطلبات السوق والتداول ، وما نساء التلفزيون اللائي يخلبن الألباب إلا نتاج للمختبرات التي ما انفكت توظف الكيمياء في صناعة النساء اللائي تخيلهن الرومانسيون وهم في ذروة المغالاة، ثمة ما يبهج في ما يحدث ، وأيضاً ما يرعب، حين يتقوض هذا الجمال الأنثوي المحبوك بعيداً عن أصابع الكيمياء ، أو حين يخلع العلم معطفه الجمالي ويجتاح عالمنا الجميل بمتطلبات الضرورة والمصلحة . المعادلة صعبة لكنها ممكنة التحقيق حين نؤمن بأن المخ البشري مزود بفصوص للجمال تحتاج فقط إلى التنشيط عبر الموسيقى والرسم ومراقبة الفراشات في أماسي الربيع الدافئة .. وحين يصف عالم الحشرات في بحثه لون أجنحة الفراشة ، ويعبر الشاعر إلى باطنها ليستشف الممكنات العميقة للحياة .

الجمعة، 12 يونيو 2009

بقع على الوسادة










اللوحة للفنان زهرة المتروك


كسؤال منسي
النار المتروكة في الغابة
تنطفئ على مهل
**
تَلَعْثُمُ الحبر
في حضرة البياض
أخطاؤنا الإملائية

**
الكتب ..
التي تبقى على الطاولة
تشبه الأصدقاء
المتاخمين للروح
**
التبغ المتراكم في المطفأة
بقايا حريق قلب
لا يجيد الالتفات
**
في الليل ..
أنسى قسوة النهار
مثلما أنسى في الصباح
تفاصيل الكابوس
**
كخصر يلتهم الموسيقى
تهتز الستارة
في نسيم بارد
**
كالضباب
في الطرق الريفية
كالأغنية في فم الطفل،
كالفراشة في زحام المحطة
كقبلة الوداع في المطار،
كالاعتذار ..
كثيرا ما يتعثر الجمال
***
لا شيء يشبه الله
كطفل يصلي في الخلاء
أو رعشة الأيادي لحظة التصالح
لا شيء كالله
سوى دمعة تلمع في العين لحظة الوداع
**
كساحر حقيقي
وبرشاقة الظلال
يُقطِّع الطباخ المحترف
أصناف الخضار
وهو يحدث المشاهدين
عن مهنة صيد النكهات
من حقول العالم
**
كإله متقاعد
يقيس أبعاد الجسد
ويفض الخيّاطُ
بآلته القديمة
مضجعَ الألوان
الغافيةِ في القماش
**
الدلاء
الهابطة
الصاعدة
لا تجلب الماء فقط
لكنها تعلمنا
كيف نحدق في السماء
تحت أقدامنا
**
خفة يد السارق
ثقيلة على أرواحنا
كثافة يد الجلاد
خفيفة على أوراقنا
**
اللصوص الرشيقون
ليسوا مجرد كسالى
لكنهم يراكمون فناً
خارج القانون
**
بائعة الهوى الليبية
لا تقف شبه عارية على الرصيف
لا تمضع العلكة في زاوية البار المعتمة
.. ..
بغطاء كامل على الجسد
وبعينين جاسرتين
تثقبان الخمار الأسود
تعلن عن وطن اللذة في الظلام
** **
في أفريقيا السوداء
حين فتك صيادو العاج
بآلاف الأفيال
وُلِد جيل من الإناث
دون أنياب
**
يتحور الجسد
كي يقاوم الزوال
تنبطح الروح
كي تراوغ الرصاص
**
بصور الضفادع
سرد رسام ياباني
تاريخ الثورة الفرنسية
...
هل كان ساخراً
أم مفرطاً في تفاؤله ؟
...
أم كان يرسم
طريق المقصلة
بماء الزغاريد
**
تنزهوا قرب الجدران القديمة
اجمعوا من المال ما يكفي لغبطتكم
عاملوا النساء كآلهات
أيقظوا أصابع الحدس في كل عتمة
....
وصيتي لأبنائي
قبل أن يولدوا
**

معتكف للشاعر
حنين الطفل إلى مستقبله
معتكف للشاعر
حنين الكهل إلى ألعابه
معتكف للشاعر
الذاكرة التي تمحو
معتكف للشاعر
النسيان الذي يصحو
**
هناك
قرب المعبد المهجور
أتدرب يومياً
على عبادة نفسي
**
يرسم الطفل
على القماش أرجوحة فاتنة
تذوب اللوحة
حين يغسل يديه
**
يقلمون الشجر العتيق
في الميدان العام
ينزعون على السطوح
ريش الحمام
فتعتم الأرض ،
وتعتم السماء .
**
الرسام العراقي
الذي قضى في قصف على البصرة
ترك على جداري
لوحة مائية :
لوجه دون ملامح
يتلاشى في مدى صحراوي مكفهر
مطرزٍ بمقطع شعري للسياب :
" أما حملت إليك الريح
عبر سكينة الليل
بكاء حفيدتيك
من الطوى
يعلو من السهل "
** **
حين تتلاشى المسافة
بين اللسان والأذن
نغنم لوحة
لا تثير سوى ..
الغرائز
**
تتفتق الفكرة
تنمو الأسئلة
يتناسل الشك
تزدهر الحضارات
في تلك المسافة
بين اللسان والأذن
**
حين يُقطع النور فجأة
دع حدسك يضيء المكان
**
حين يتكرر المشهد الغامض
تلمس سر التجربة
في ذاكرة الروح العميقة
**
حين يهدد العطن
أوهامك الملهمة
جرب مع الضحك
قليلا من العناد
**
المتع المسروقة
من غفلة الآخرين
ملهمة ...
كبقايا السكر
حول فم طفل
**
قرب دكان الأكفان
صيدلية ...
تبيع مسكنات الألم
ومقويات الخصوبة
....
قرب كآبتي
مذياع
يفتر عن موسيقى ساحرة
***
أشار صديقي
إلى مبنى الأمن المغلق على أسراره
وقال بمرح غابر:
هنا كان ملعب للتنس
وبار صغير
**
أشار إلى الوادي
الذي يقسم المدينة :
هنا كان جسر حجري قديم
ينقل عربات العرائس
من ضفة إلى ضفة
**
أشار إلى رجل في الشارع
يحدث نفسه :
هنا كان أب لطفلين
عاد من الحرب الخاسرة
بجرح في الروح
**
أشار إلى صدره :
هنا كان ثمة ما يتأهب
كشجر اللوز
للإزهار
**
أشار إلى
هيكل دراجة صغيرة :
هنا كان حلم ..
لم ير أباه
ولا الجسر القديم
ولا ملعب التنس
ولا زهرة القلب
أبداً ....
**
كان يكفيه خمس دقائق
ليولد على يد القابلة
وخمسة أيام
على درج السجل المدني
ليحصل على شهادة ميلاده.
**

علي صدقي عبد القادر
شاعر ليبي
ولا حتى مصادفة
لم يلتق باليأس
في حياته
**
الجيلاني طريبشان
شاعر ليبي
ولا بمحض الصدفة
لم يلتق بالأمل
في حياته
**** *
مازلتُ
أفتش عن غزالة تركض
في وطن يمتد
كسيرة نبي
بين أقصى اليأس
وأقصى الأمل
******


الخميس، 4 يونيو 2009

من أول السطر

(اللوحة للفنانة اللبنانية دلال حسن)





تتسع الحياة لكل شئ
للآثام ..
وللأعمال التي نعتقد أنها صالحة
كثيراً ما اندم على ما لا أفعله
انتشي برياء امرأة تدعي حبي
ـ زهور اللدائن لا تخلو من البهجة ـ
أو امرأة تلتقيني ..
لتثأر من خيانة حبيبها
الخيانة نزعة إنسانية
الكلاب لا تفعل ذلك ،
وأيضاً الأبواب
لا أكره أحداً
ولا أحب إلا من أحب
ليست الأمور شائكة لهذا الحد
والفئران لا تخلو من خفة ظل .
الروح يمكنها أن تتألق
في الصلاة
أو البار
أو عند المضاجعة
لا شئ يدعونا لأن نفكر ملياً ..
في أمور تقترحها الغر ائز

الزهد وجه آخر للترف ..
لا بأس من شرب الماء في آنية من الذهب
أو براحة الكف من جدول رقراق
أوه .. مفردة رقراق مبتذلة
لكن من حقها أن تبقى
نقر المطر على الصفيح ، أحبه
وأنا أتدثر امرأة دافئة
موسيقى مودزار عندما أكون وحيداً
نباح الكلاب حين أكون في انتظار حبيبتي
صوت يفون الماء بعد قضاء الحاجة
الضحك أيضاً عندما أُهزم
أحتاج أحياناً لمن يشتمني
ولا أنكر لذة إطراء لا أستحقه
أو اصطدام مقصود بامرأة على الرصيف
تتسع الحياة لأي شئ
الزهور ، القمامة ، الأولياء ، العاهرات
الأبطال ، الذباب ، الأطباء ……
ليس ثمة إلى آخره
وليس ثمة امرأة قبيحة
ولا أنثى لا يمكنها أن تهز السرير
لا شئ يدعونا للتورط في لعبة القيم
أو بيانات الخلاق المبوبة
كل ذلك من اختراع اللغة
أما الحياة فهي حياة
مساحة للخطاء والنزوات ،
للدناءة والنبل والسخرية
حين أؤمن بلحظات الضعف
وبجمال النفس الأمّارة
يمكنني أن أتجاور ،
و أن أحترم ما يزعجني في الآخرين
يمكنني أيضاً ..
أن أصافح رجلاً سرق مني صديقتي ،
أو أتأمل بعوضةً على ساعدي ،
وأتركها تطير
لا شئ يستحق الندم
فكل ما نفعله يُضاف إلينا
وكل ما نراه حولنا هويتنا
العري لحظة سؤال
والمكياج كذب أنيق
الحجاب عتمة تضيء الجسد
والموت ..
نقطة ومن اول السطر
تتسع الحياة لكل شئ
للآثام ..
وللأعمال التي ..
…………

الأربعاء، 3 يونيو 2009

الشعر هذا ..! نسّاج العتمة المعتوه

(اللوحة للفنان محمد زعطوط)
مصادفة وجدت نفسي يوماً ما ضمن طقس تمثل في جماعة من الفلاحين يؤدون صلاة الاستسقاء ، أطلقوا ادعيتهم إلى السماء القاحلة ومضوا محتفظين بالتراب على جباههم ، بعد ساعات قليلة، غيمت السماء وسقطت الأمطار بغزارة، فامتلأت وجوههم بالوحل والأمل ، كنت قبل ذلك بيوم شاهدت في نشرة الأخبار الجوية توقع سقوط أمطار غزيرة في المكان نفسه، وكان ظل من المفارقة المرحة يستيقظ في ذهني وأنا احتفل مع الصبية بسقوط المطر، وفي اللحظة تلك أحسست أنني أقبض على الكائن الشعري، وان روحي تتشرب برحيق جديد يشبه قوس قزح ، كان الفلاحون ـ والماء يتلون بالتراب على جباههم ـ يحسون أنهم تواصلوا مع السماء وجلبوا المطر بيأسهم، كانوا يكتشفون الإرادة في الضعف الإنساني وهم يدرجون أسطورتهم في ملعب الطبيعة المتعالية، وكنت أدرك في قرارة نفسي أن ما حدث كان متوقعاً قبل الصلاة ، وبين مرح الإنسان بأوهامه الكبيرة وغبطة التكهن الأرضي، الذي أحاله الشغف العقلي إلى إمكانية للتنبؤ، كان ذاك الكائن المضطرب يمد أطرافه في داخلي ، ويجعلني دائم الإصغاء لكل ما يؤكد جدارة الإنسان بالحياة ، ومستمتعاً بالمكوث عند كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر إيماناً بقوة الجمال الكامنة في كل الكائنات ..المنحى الذي يعزز مفهومنا عن الإلهي بوصفه ابتكاراً إنسانياً مستمرا، وعن الفن باعتباره لغز النزهة الإنسانية بين العارض والخالد، فلكل منا لغزه المراوغ ومحنته التي تليق به.. من هنا يبرر الشعر عزلته الأزلية ـ رغم ولع المحيط به ـ وغربته التي بها يمرر أسئلة الوجود المجازفة ، إن عراكه الأوحد مع سحر الألفة هو ما يحقق كينونته التي تجيد اختبار كل شيء ووضعه في منطقة التساؤل الطفولي الذي لا ينضب، وبالتالي ظل الشعر أكثر الحقول أخلاقية على مدى التــــــــاريخ، عبر انحيازه الجمالي إلى جوهر الإنسان المفارق وهوسه بالحرية ، يقول ليوباردي: "إذا ما عن لنا ان نكرم كتباً بعينها لقيمتها الأخلاقية فإنني اعتقد أن كتب الشعر هي الأجدى بالتكريم على الإطلاق " لذلك سيبدو لنا سؤال الشعر إشكالياً ومنغصاً، إذا ما ربطناه بالجدوى، أو المشاريع، أو فكرة المنجز .. إنه كائن حفار بعمىً ثاقب البصيرة، ينظر بازدراء لكل هذه الترسيمات ، ليس من شأنه اكتناه الأجوبة ، ولا إبداء الآراء، ولا صنع التاريخ ، ولا تفقيس الأفكار ،ولا الشهادة على العصر.. هو الكائن المسرف في لا مبالاته، وهو يفض بمثابرة قشور الوجود، دون أن تكون له فكرة عن ما وراء أية قشرة، ولا هدف له سوى أن ينقل كل ما سبق إلى ملعبه، وينفخ فيه من روحه، ليزيده غموضاً وقابلية للتوغل فيه من جديد، ليس الشعر في حاجة وظيفية لتبرير وجوده الأزلي ، إنه كينونة في حد ذاته، له سيرته الجينية الخاصة التي بها نشأ وبها يتطور ، يريد أحياناً أن يقول مباشرة ، لكن تأتأة السؤال الصعب تلاحقه ، فلا يملك إلا الخرس في وسط الزحام الذي يتوخى الفهم والطرب .. ويستبدل كينونته بالظل كلما حاولنا القبض عليه، ووسط كل هذه الصلابة والعته الذي يكابر به ، سيجعل ثيمات اللحظة تنزف من سديمه اللامتناهي ، ليس الشعر بعيداً عن الألم أو الوطن أو الأم أو العشيقة الهاربة، أو الندم أو الحق أو عبادة الذات أو هجائها ، ليس بعيداً حقاً عن التغزل في قهوة الصباح ، أو بحة امرأة لحظة نهوضها من النوم ، ليس بعيداً ، لكنه قريب كقرب الجفن من العين التي أبداً لن تراه ، يمر بلعابه على كل هذه التفاصيل فتبدو راهنة وأبدية، جلية وغامضة.. لأنه قناص الدهشة باستمرار وصائد اللحظات التي لا تتكرر ، والأهم من ذلك باعث الكائنات الخرساء في صمتها ، وحاقن الأشياء المحايدة بشهوة أن تكون وأن تهذي. إنه جليل كالتراب المتوسل على الجباه الظامئة، وواثق من نبوءته كفتاة جميلة توزع الأمطار على العالم في نشرة الطقس، وخلف كل هذه الطاقة العظيمة يظل الشعر كائن الزوايا المعتمة ونبات الظل الذي لا ينمو في الضوء الشديد ، قدره العزلة التي من خلالها يتسرب إلى النفوس التائقة له، في كل زمان ومكان.. موعده مع المتوحدين أينما كانوا ، ولأنهم أقلية هائلة يظل حياً ونافخاً رحيقه في أشد الأوقات ضراوة تجاه أرواحنا، في أزمنة الحرب والجوع والكوليرا، يقترح أوكتافيو باث: "في الماضي كان الناس يتحدثون مع الكون، أو كانوا يظنون أنهم يفعلون ذلك ، وحين كان لا يجيب فلأنه، على الأقل، كان مرآة لهم، وفي القرن العشرين اختفى المتحدث الغامض واختفت الأصوات الغامضة .. صار كل إنسان وحيداً في المدينة الهائلة، يتشارك في عزلته مع ملايين الوحيدين، إن بطل الشعر الجديد معتزل وسط حشود المعتزلين" هكذا تحدث باث .. وهكذا نفهم وهماً يراودنا بأن زمان الشعر انتهى، وإن لا احد يقرأ الشعر الآن ، لكن هذا التداول الخفي في زمن العزلة يجعل سوق الشعر هي العتمة نفسها، حيث يمكن أن نتحسسه دون أن نراه ، الشعر الحقيقي لا يحب الشمس، لأنه لا يرغب أن يكون عاكساً لضوئها ، لكنه شغوف بنسج خيوط الضوء من العتمة، ومنغمس في إيقاظ كل الحواس التي طالها البكم والتلوث، يرى وسط الظلام وينصت في قلب الصخب ويشم وسط الحرائق ويتلمس الأشباح بأصابع مبتورة ، ليس المعجزة ما يفعله لكن الطفل العنيد في داخله لا يتوقف عن إحراج الأجوبة الراشدة بأسئلته البسيطة والمربكة، هنا ينهض السؤال من جديد ـ يقول شاعر معتوه خرج من الكهف متوهماً أنه سيضيء العالم :هنا البرزخ الذي نستدربه إلى حتف الأجوبة .. ماذا نريد ؟ .. لماذا الشعر؟.. وكيف القصيدة التي تشيّد ماءنا العنيد؟ .. نحن الشعراء المنبوذين ، ننتبذ بياض الورق لنسفر عن أوهامنا .. نحوج الأرض التي كلما أمطرناها ربت .. نحتاج السنبلة المائلة في الشفق الحميم .. نحتاج قليلا من الحبر نلوّث به يقين العالم .. نسترسل في أحلام اليقظة لننحت المكان كما يشاء المجاز .. . ليس في مقدورنا ارتياد الغرف بحزن المراهقات ، وليس في مكنتنا قلب الأساطير التي تنبض قرب أسرّتنا .. فقط نشتهي .. وفقط نكذب حينما يكون الصدق قمار الواثقين .. نكذب فنقول : إنَ الطفل الذي قفز من النافذة كان يلاحق العصفور الملون ، وان المرأة التي عطّرت سريرها تنتظر الأشباح ، ونكذب لنقول أن الغبار شتائم الصحراء التي نخونها مع عشب الحدائق .. لنا هذا الوتر الذي نشده بين العقل وشهوة الروح، لنا هذا الحبل الذي تخفق فوقه ثياب التجربة.. نرمي عصانا في لهب الأغاني ونترك للبحر محاريث الأنبياء .. نحن الشعراء ربما.. نطرد الخوف بصفير القصائد .. يتبعنا الغاوون حين يكون الغيٌّ ارتياب .. نصبأ عن الجبال ونهيم في كل واد عميق .. نقول ما لانفعل فنخترع الحلم ، ونفعل ما لا نستطيع فنخترع الوهم .. نسمو بالنثر إلى القصيدة ونعيد إلى الجسد طقسه الوثني .. نهرّب الخيال في جواربنا .. نرسم في غرف دون سقوف ونمضغ نعناع البراءة كي لا تفوح رائحة الحلم من أفواهنا .. نغادر الطرق المدروبة إلى مسارب الغابة الطرشاء.. نُزوّج الشوك من ألق البحيرة، ونشطب بالفرشاة قضبان النافذة .. متراسنا الضحك.. نتفكه على الندم ونزرع أصابعنا ديناميت في غرف المعاجم .. حديقة الكلمات المروضة ونزهة المحايدين .. لنطلق كائناتها الهادئة في الشوارع الصاخبة ، وننزع من عيون الآخرين معانيها المؤجلة .
الجسد عبقرنا الكثيف .. برهان الروح .. مأوى الجنون وخارطة النص الذي يمارس نزواته على الملأ.. .. لماذا الشعر؟ .. سؤال بحجم لماذا نحن .. وما هو الشعر ، سؤال بحجم الوجود، هائل مثل بركان وهامس كعود ثقاب .. نكتب على ضوء الحرائق قصيدة البرد والسلام ، ونكتب في الطمأنينة قصيدة القلق .. أنيسنا الفزع حين يستبد بالعيون طحلب الرضا.. لا نريد شيئا .. ولا أن نكون شيئا .. مغامرين أو عباقرة .. فقط نغني بهدوء .. مبللين على الأشجار العارية .. ننعش خشب النساء المنتظرات طقس البكارة بغيم الحبر المتناسل في أرواحنا .. لا نريد شيئا ولا أن نكون .. فقط نحن كما نشاء .. وكما الحياة نفسها تعبث بكل يقين.