سالم العوكلي
المنحوتة للفنان محمد زعطوط
جسد الأم منتشر في المحيط ، مغرق في سخائه الذي لا يعرف الوهن ، كل شئ متشرب به ، ومؤنث عبره ، مختلط عبر كيميائه الخاصة مع مفردات المكان ، ومعزوف بإتقان إلهي وبعذوبة إيقاع لا يهدأ إلا في عزلته ، كل شئ أذكره في طفولتي كان يمر عبر جسد الأم ، الحليب ، الملابس ، المأوى ، والطعام الطازج الذي تقضي ليلها تناجي على حواشيه الرحى بأغانيها، ويدها التي تطلي أجسادنا بالماء المحمول على ظهرها الذي في أرجوحته الوارفة كم تسلقت معها السفوح بحثاً عن البابونج والزعتر ، تستلم الصوف ساخناً من على ظهور الضأن ، وتبدأ مرحلة التكوين والعزف المفرد على أوتاره ، يتلوى تحت عصاها مخلوطاً بكلس الجبل المُعقِم ، وتجري خيوطه النحيلة بين أصابع قدمها ويدها لتلتف على المغزل الخشبي الذي يدور كترس على ساقها ، تمتد الخيوط صوب الشفق البرتقالي وهي تحبو على ردفيها خلف قيثارة الصوف الذي سوف ينتصب بيتاً مزخرفاً من الداخل بألوان انتحلتها من بقايا ملابسنا ، كل رقعة فيه مشحونة بذاكرة وحكاية ، مربعات من الألوان المتزاحمة ، لا يربطها شئ سوى مزاج الأم ومجازها لحظة الرفو ، في إحدى الشتاءات القاسية ، التي يهطل فيها الجليد بغزارة ، كنا نربض في بيت ربيعي من الشعر في إحدى سفوح لالي التي تقع في أعلى الجبل الأخضر ، تكورنا ليلتها جميعاً في مساحة صغيرة بين عامودي البيت ، حيث هناك الفضاء الوحيد الذي لا ينقط فيه البيت الماء البارد على أجسادنا ، نمنا جميعاً لكن أمي لم تنم ، قضت ليلتها تجرف الجليد المتراكم فوق نسيج البيت حتى لا يسقط فوقنا ، كانت تدور طيلة الليل القارس كرحى أو كمغزل لا يهدأ ، وفي الصباح أيقظتنا رائحة الحليب الفائر على الجمر الطازج ، وكانت كل البيوت في سفوح الوادي قد تهاوت وانتقل قاطنوها إلى الكهوف في منتصف الليل عدا بيتنا الذي ظل منتصباً كفطر عملاق وسط الجليد بفضل تلك العجوز القصيرة والعنيدة ، التي ألقت بجسدها في قلب البرد والعتمة لتحمي أجسادنا ، جسد الأم بوح بيولوجي ، وانتهاك غريزي وحميم لكل الكائنات المتاخمة له ، ملهَم باللذة والألم عبر تصدير ممكناته للآخرين ، ومفعم بخليط من الروائح المعبرة التي لا يمكن نسيانها ، روائح القرنفل والعنبر والدخان ، يلبي بافتتان رغبات الجميع دون إحساس بالتعب ، ينشطر كرافدي نهر دافق بين الأمومة واللذة ، بين السماء والأرض ، بين العبادة وتوق العالقين بردائها ، وقتها المزدحم بالإيثار هو مأتى صلاتها العجلى ، ونومها المتاخم لليقظة محرر للجسد الأخاذ من النسيان ، قبل رحيلها بأيام سردت لي على غير عادتها كل تفاصيل حياتها الضاجة ، وكأنها تودِعني أمانة سرد التجربة الحافلة ، تجربة امرأة عزلاء سوى من الحب عاشت شظف الحياة في مكان وعر ، طلبتُ منها تلبية لرغبة صديقي أحمد يوسف عقيلة الذي يعد كتاباً عن غناوة العلم أن أسجل منها بعض غناوي الرحى ، فكانت دون وعي تدير يدها على رحى وهمية كي تعيد الزمن وتتلو ما تيسر منها ( زنين هالقلب يريد .. رموات قمح ما فيهن غثر ) كانت تؤديها جارتها الصغيرة والجميلة التي أرغمت على الزواج من رجل يكبرها سناً ويعاني من عاهة ، وعندما سمعها فهم الرسالة وتركها تمضي في حالها ، كانت تسقط مفردات الرحى على ذاتها فالقلب هو القضيب الأوسط التي تدور حوله الرحى ، كان يحدث أنيناً ، لأنه يريد قمحاً دون شوائب ، وهكذا كان حالها ، كنت أحاول دائماً أن استعيد أغاني أمي لأعرف ما كانت تبثه من شكوى عبر ليلنا الموحش.
هناك تعليقان (2):
أجد المتعة في عزفك ويستهويني الحدث بمكانه وعبق الذكرى ...فأرتياد لجةالحرف في سكون فوضى اللغة
لم يعد سؤة نتجنبها ... لك تحياتي ولاتطل الغياب.. عبدالمنصف الحصادي
سيدي/ذكري تقول في أحدى روائعها: (مااتطيح يا بيت أمي ولا ياخذوا منك عمود كان غير ماني امسمي وكان غير ماني فالوجود)....رافقني النغم أثاءالمرور وأطراف الذهول...رائع ابجد
إرسال تعليق