الأربعاء، 15 أبريل 2009

قيثارة الصوف ..



سالم العوكلي

المنحوتة للفنان محمد زعطوط

جسد الأم منتشر في المحيط ، مغرق في سخائه الذي لا يعرف الوهن ، كل شئ متشرب به ، ومؤنث عبره ، مختلط عبر كيميائه الخاصة مع مفردات المكان ، ومعزوف بإتقان إلهي وبعذوبة إيقاع لا يهدأ إلا في عزلته ، كل شئ أذكره في طفولتي كان يمر عبر جسد الأم ، الحليب ، الملابس ، المأوى ، والطعام الطازج الذي تقضي ليلها تناجي على حواشيه الرحى بأغانيها، ويدها التي تطلي أجسادنا بالماء المحمول على ظهرها الذي في أرجوحته الوارفة كم تسلقت معها السفوح بحثاً عن البابونج والزعتر ، تستلم الصوف ساخناً من على ظهور الضأن ، وتبدأ مرحلة التكوين والعزف المفرد على أوتاره ، يتلوى تحت عصاها مخلوطاً بكلس الجبل المُعقِم ، وتجري خيوطه النحيلة بين أصابع قدمها ويدها لتلتف على المغزل الخشبي الذي يدور كترس على ساقها ، تمتد الخيوط صوب الشفق البرتقالي وهي تحبو على ردفيها خلف قيثارة الصوف الذي سوف ينتصب بيتاً مزخرفاً من الداخل بألوان انتحلتها من بقايا ملابسنا ، كل رقعة فيه مشحونة بذاكرة وحكاية ، مربعات من الألوان المتزاحمة ، لا يربطها شئ سوى مزاج الأم ومجازها لحظة الرفو ، في إحدى الشتاءات القاسية ، التي يهطل فيها الجليد بغزارة ، كنا نربض في بيت ربيعي من الشعر في إحدى سفوح لالي التي تقع في أعلى الجبل الأخضر ، تكورنا ليلتها جميعاً في مساحة صغيرة بين عامودي البيت ، حيث هناك الفضاء الوحيد الذي لا ينقط فيه البيت الماء البارد على أجسادنا ، نمنا جميعاً لكن أمي لم تنم ، قضت ليلتها تجرف الجليد المتراكم فوق نسيج البيت حتى لا يسقط فوقنا ، كانت تدور طيلة الليل القارس كرحى أو كمغزل لا يهدأ ، وفي الصباح أيقظتنا رائحة الحليب الفائر على الجمر الطازج ، وكانت كل البيوت في سفوح الوادي قد تهاوت وانتقل قاطنوها إلى الكهوف في منتصف الليل عدا بيتنا الذي ظل منتصباً كفطر عملاق وسط الجليد بفضل تلك العجوز القصيرة والعنيدة ، التي ألقت بجسدها في قلب البرد والعتمة لتحمي أجسادنا ، جسد الأم بوح بيولوجي ، وانتهاك غريزي وحميم لكل الكائنات المتاخمة له ، ملهَم باللذة والألم عبر تصدير ممكناته للآخرين ، ومفعم بخليط من الروائح المعبرة التي لا يمكن نسيانها ، روائح القرنفل والعنبر والدخان ، يلبي بافتتان رغبات الجميع دون إحساس بالتعب ، ينشطر كرافدي نهر دافق بين الأمومة واللذة ، بين السماء والأرض ، بين العبادة وتوق العالقين بردائها ، وقتها المزدحم بالإيثار هو مأتى صلاتها العجلى ، ونومها المتاخم لليقظة محرر للجسد الأخاذ من النسيان ، قبل رحيلها بأيام سردت لي على غير عادتها كل تفاصيل حياتها الضاجة ، وكأنها تودِعني أمانة سرد التجربة الحافلة ، تجربة امرأة عزلاء سوى من الحب عاشت شظف الحياة في مكان وعر ، طلبتُ منها تلبية لرغبة صديقي أحمد يوسف عقيلة الذي يعد كتاباً عن غناوة العلم أن أسجل منها بعض غناوي الرحى ، فكانت دون وعي تدير يدها على رحى وهمية كي تعيد الزمن وتتلو ما تيسر منها ( زنين هالقلب يريد .. رموات قمح ما فيهن غثر ) كانت تؤديها جارتها الصغيرة والجميلة التي أرغمت على الزواج من رجل يكبرها سناً ويعاني من عاهة ، وعندما سمعها فهم الرسالة وتركها تمضي في حالها ، كانت تسقط مفردات الرحى على ذاتها فالقلب هو القضيب الأوسط التي تدور حوله الرحى ، كان يحدث أنيناً ، لأنه يريد قمحاً دون شوائب ، وهكذا كان حالها ، كنت أحاول دائماً أن استعيد أغاني أمي لأعرف ما كانت تبثه من شكوى عبر ليلنا الموحش.

هناك تعليقان (2):

المدينة القديمة يقول...

أجد المتعة في عزفك ويستهويني الحدث بمكانه وعبق الذكرى ...فأرتياد لجةالحرف في سكون فوضى اللغة
لم يعد سؤة نتجنبها ... لك تحياتي ولاتطل الغياب.. عبدالمنصف الحصادي

فريجة صالح (البيضاء) يقول...

سيدي/ذكري تقول في أحدى روائعها: (مااتطيح يا بيت أمي ولا ياخذوا منك عمود كان غير ماني امسمي وكان غير ماني فالوجود)....رافقني النغم أثاءالمرور وأطراف الذهول...رائع ابجد