الجمعة، 24 أبريل 2009

طقوس الظلام


1

كان عمري يناهز العشر سنين ، وكنت كوبوي صغيراً يرعى قطيعاً من الأبقار في أطراف الجبل الأخضر الذي مازال محتفظاً ببعض أشجار العرعر المتناثرة من بقايا تلك الغابة الطرشاء ، وبقايا صهاريج وكهوف رومانية قديمة ، كان النهار قائظاً فدخلت إحدى المغارات لأستظل بها ، قبو طويل بارد ورطب ومعتم ، يضيق كلما تعمقت به ، كانت تنصب به الشراك لحيوان صيد الليل الذي تغطي جلده إبر طويلة تسمى الشيص يستعملها للدفاع عن نفسه كلما أحس بالخطر فتتطاير كالنبال في كل اتجاه ، يشعلون النار في مدخل المغارة فيخرجه الدخان إلى الشرك المعد باتقان ، في تلك المغارة أخذني عند المساء سبات عميق ، وعندما صحوت وجدت نفسي في عتمة سوداء ، واصطدم رأسي بسقف المغارة الضحلة حين نهضت بسرعة وأنا لا اعرف مكاني ، خرجت زاحفاً وركضت مسرعا، وكانت تلك الواقعة أول صدامي مع عتمة بهذه الكثافة ، وكانت بدايتي خوفي من الظلام ، كنت أركض هاربا إلى عتمة أقل شراسة حيث بدت الأشياء في وميض الليل كأنها أشباح تلاحقني .

في مساء شتائي كنت نائماً بمفردي في منزلي القديم الذي يرجع بناؤه إلى العشرينات ، وأثناء نومي انقطع التيار الكهربائي ، وعندما نهضت وجدت نفسي بعد أكثر من ثلاثين عاماً في عتمة المغارة نفسها ، شئ واحد كان يختلف ، وهو أني أسمع صوت السيارات في الخارج ، فتحت الشباك لأجد العتمة في الشارع أكثر ألفة وطمأنينة ، مطعونة بسيوف لهبية من أضواء السيارات المتشابكة في الأفق المعتم ، تصبح الحياة بعدها محاولة دائبة لإضاءة العتمة المتطرفة بعتمة أقل ضراوة، من الممكن أن أرى فيها حدود أصابعي ووميض شاحب ومعبر للأشياء حولي يمدني بمعنى غامض للمكان الذي يعبر عن حضوره بشكل آخر حين لا يكون مرئياً ، في الظلام تتحفز الحواس ، فتتمدد الشبكية لامتصاص أكبر قدر من الضوء المتاح ، وتقوى حواس أخرى كالشم والسمع ، وتطغى الروائح والأصوات المنسية من الطفولة مجتاحة عالم الصخب الراهن ، لكن حاسة اللمس تغدو أكثر فعالية ، تلمس الأشياء لحظة أفولها يغدو هو الضوء الهادي إلى طريق لم تعد في متناول الرؤية .. عندما كنت أركض من المغارة في طريق معتم كانت أقدامي تتلمس درباً خبرته جيداً ، حتى لاح لي من بعيد ضوء الفنار المتسرب من ثقوب الصفيح كنجوم بعيدة ، كانت الأبقار قد عادت في موعدها ، وأمي التي اعتقدت أنني كنت كعادتي عند الجيران لم أحك لها ما حدث ، لكنها لاحظت أني طلبت منها تلك الليلة أن لا تطفئ الفنار ، وأغمضت عيني على كابوس: أركض في عتمة لا متناهية على طريق موحلة تلتصق بها قدماي ، يطاردني مجهولون يرونني جيداً ، وانا لا أرى شيئاً عداهم ، وكأنهم في بؤرة ضوء مسرحية ، ومراراً كان هذا الكابوس يتكرر كما هو ، وكنت استغرب عدم تكرار الأحلام المرحة في الوقت الذي تعيد فيه الكوابيس نفسها مراراً ، وكأنها مسجلة على شريط في الذاكرة ، في الفترة اللاحقة وفي المرحلة الإعدادية تحصلت على كتاب أصبح لا يفارقني وقرأته عشرات المرات، ورغم ذاكرتي الضعيفة في الكتب التي قرأتها إلا أنني مازلت أذكر غلافه المزين بفتاة جميلة وعنوانه عذراء للبيع لكاتبة ساذجة اسمها حياة إلقاق ، وما شدني في ذلك الكتاب هو مشاهده الجريئة والتي كتبتها أنثى ، وأكثر المشاهد التي كنت أتوقف عندها هو مشهد الطالبة التي كانت تحاول إغراء معلمها الملتزم ، وعندما آوت في ليل عاصف إلى فراشها انفتح مصراعا النافذه ، نهضت لتغلقها فوجدت المعلم القادم مع الريح بين يديها ، وضمهما سرير دافئ وسط عتمة مطبقة ، لم تره أو يرها لكن لغة اللمس التي وصفتها الكاتبة بدقة كانت الضوء الذي أنار تلك الليلة ، وتولدت في ذهني عتمة أخرى شاعرية ونابضة بالحياة واللذة ، عتمة متخيلة ستغدو فيما بعد مرقداً لأحلام اليقظة التي عبرها كتبت نصوصي الأولى ، فكنت مأخوذاً بهذا الظلام المؤنس الذي سيغدو حظوة عندما يمتلئ نهاري بالكوابيس التي تعيد نفسها مراراً ، العتمة التي يتصرف فيها الجسد بكينونته دون تفسير أو مراقبة لما يحدث ، تتحول الخلايا إلى مسام تنمو ببطء في ظلام ناعم كالصوف ، ويغدو إشعال الضوء مثل النار في مدخل المغارة طعنة لهذا الطقس الذي نتحرر فيه من العالم الخارجي ومن المحيط وننكفئ داخل ذواتنا مفعمين بذاكرة تجعلنا نمارس الأحلام في ذروة اليقظة ، لهذا ربما نحب لحظة غروب الشمس الأخاذ الذي سيسلمنا لعالم من الأنس الخفي فإذا الليل حميم وشهواني وإذا الصبح مطل كالحريق ، وربما لهذا تمتلئ الأشعار بالتغني بالليل وبالعين التي تلتوي أثناءه في داخلنا لنمعن جلياً في عالم كامل يقطن هذا الجسد المتعب من لهاث النهار . في الليل تأوي ظلالنا إلينا وتغادرنا الأوراح عبر الأحلام والرؤى التي تعيد مثل الفن كتابة الحياة النهارية عبر كولاج مختلط ووجوه تأتي وتغادر دون أن نعرفها ، مخزون الذاكرة يخرج على السطح زاخراً بالتأويل ليحقق كوجيتو الحالم كما يقول باشلار ، نعم على عتبة ميتافيزيقيا الليل كل شئ هو سؤال .

2

وفود من حجاج الظلام كانت تتهاطل على منطقة البردي حيث تم الإعلان عن كسوف كلي للشمس في هذه المنطقة ، والكل مترع بفضول مشاهدة الطبيعة وهي تخرج عن نسقها لثوان معدودة . والكل كان متشوقاً لأن يرى النجوم في عز الظهر .

معظم الدعايات التجارية والسياحية التي تتحدث عن كسوف الشمس ، تركز على أن هذا الحدث لن تتاح لك فرصة مشاهدته إلا مرة واحدة في حياتك ، وإنك محظوظ كون هذا الحدث النادر وقع في الفترة التي تعيش فيها.. لا يتعلق إغراء الكسوف وملاحقة العالم له عبر الأرض بالعتمة التي تحدث وسط النهار .. إن المجاز هو الذي يحركنا تجاه هذا الحدث ، مثلما يجذبنا صوب الفن .. أن تفاجئك العتمة في الظهيرة .. أن ترتدي الشمس للحظات خمارها وتغدو قرصاً أسود تحيطه هالة خفيفة من الضوء الخجول ، كل هذه صور من الممكن أن تكون من صلب الشعر ، أو بالأحرى يمتلئ بها مجاز الشعر ، وشغف الإنسان هنا يتمحور حول فرصة أن يكون أمام المجاز وجهاً لوجه .. أن يتحول المجاز أو الاستعارة إلى واقعة تُلتقط بجانبها الصور التذكارية ، ثوان مسروقة من قلب الليل ، ومنثورة كعينة في عز النهار .. والعالم يرحل صوب هذه الثواني قاطعاً آلاف الأميال ، حيث انفجار العلاقة الفنية بين المكان والزمان ، السفر عبر مكان شاسع للتمتع بزمن مقتضب يكاد لا يرى ، وفي هذا الزمن الومضة يغدو الإنسان مصلوباً على فرصة حياته النادرة ، التي تبدو كتفجير لغوي مكثف عبر نص نثري طويل وركيك ، إضافة إلى فرص أخرى تجعله يثأر من إمكاناته البسيطة أمام قوة الطبيعة ، مستمتعاً بهذا النشاز الأخاذ في النظام الكوني برمته ، مثلما يستمتع الشاعر المناوئ بكسر إيقاع شعري ممل ورتيب ، تكمن لذة الثأر في إمكانية التحديق بقوة في قرص الشمس المنطفئ أمامه في ذروة ارتفاعه ، لحظة ضعف أنثوية تستسلم فيها الشمس الجامحة أمام عيوننا ، ولحظة نستمتع فيها بارتباك الكائنات المبرمجة بساعة بيولوجية ، تعود الطيور ملتبسة إلى أوكارها ، لتركن إلى ليل قصير لا يكفي لنفض جناحها ، ارتباك هذا النظام ساحر.. وضرب الرتابة في صميمها ملهم لنا .. قال أحدهم : ما الذي يدفعني لأن أترك أعمالي وأسافر بعيداً لأتفرج على دقيقة من الظلام ، والظلام متاح في بيتي بكثافة ، وهو هنا بذاكرة خالية من جاذبية المجاز ، يجرد الحدث ويخلع عنه شعريته ، يرده إلى خامة الأسئلة التي تتوخى الجدوى ، والسؤال عن الجدوى طاعن للفن في جوهره ، وتكفي إيماءة ساذجة للإجابة عنه .

أعود إلى الدعاية التي تتوسل كون هذا الحدث لن تراه إلا مرة في العمر ، وكأن كل ما يحدث في حياتنا قابل للتكرار ، فلا شيء في عمر الإنسان إلا ويراه مرة واحدة .. وجه أنثى لا يمكنك أن تراه إلا مرة واحدة ، وشكل سحابة عابرة أيضاً .. وصورة وجهك في المرآة لا يمكن أن تراها كما هي مرتين ، قانون الاختلاف المنبثق من الحركة يجعل كل شيء جديد ، ورغم كل شعرية الكسوف التي ذكرت ، فإن شفق الشروق سيظل أكثر المشاهد فتنة وإثارة ، وأحب أن تحسب حياتي بكم شروق لا أن تحسب بكم كسوف عشته .

ليست هناك تعليقات: