الأربعاء، 3 يونيو 2009

الشعر هذا ..! نسّاج العتمة المعتوه

(اللوحة للفنان محمد زعطوط)
مصادفة وجدت نفسي يوماً ما ضمن طقس تمثل في جماعة من الفلاحين يؤدون صلاة الاستسقاء ، أطلقوا ادعيتهم إلى السماء القاحلة ومضوا محتفظين بالتراب على جباههم ، بعد ساعات قليلة، غيمت السماء وسقطت الأمطار بغزارة، فامتلأت وجوههم بالوحل والأمل ، كنت قبل ذلك بيوم شاهدت في نشرة الأخبار الجوية توقع سقوط أمطار غزيرة في المكان نفسه، وكان ظل من المفارقة المرحة يستيقظ في ذهني وأنا احتفل مع الصبية بسقوط المطر، وفي اللحظة تلك أحسست أنني أقبض على الكائن الشعري، وان روحي تتشرب برحيق جديد يشبه قوس قزح ، كان الفلاحون ـ والماء يتلون بالتراب على جباههم ـ يحسون أنهم تواصلوا مع السماء وجلبوا المطر بيأسهم، كانوا يكتشفون الإرادة في الضعف الإنساني وهم يدرجون أسطورتهم في ملعب الطبيعة المتعالية، وكنت أدرك في قرارة نفسي أن ما حدث كان متوقعاً قبل الصلاة ، وبين مرح الإنسان بأوهامه الكبيرة وغبطة التكهن الأرضي، الذي أحاله الشغف العقلي إلى إمكانية للتنبؤ، كان ذاك الكائن المضطرب يمد أطرافه في داخلي ، ويجعلني دائم الإصغاء لكل ما يؤكد جدارة الإنسان بالحياة ، ومستمتعاً بالمكوث عند كل ما من شأنه أن يجعلنا أكثر إيماناً بقوة الجمال الكامنة في كل الكائنات ..المنحى الذي يعزز مفهومنا عن الإلهي بوصفه ابتكاراً إنسانياً مستمرا، وعن الفن باعتباره لغز النزهة الإنسانية بين العارض والخالد، فلكل منا لغزه المراوغ ومحنته التي تليق به.. من هنا يبرر الشعر عزلته الأزلية ـ رغم ولع المحيط به ـ وغربته التي بها يمرر أسئلة الوجود المجازفة ، إن عراكه الأوحد مع سحر الألفة هو ما يحقق كينونته التي تجيد اختبار كل شيء ووضعه في منطقة التساؤل الطفولي الذي لا ينضب، وبالتالي ظل الشعر أكثر الحقول أخلاقية على مدى التــــــــاريخ، عبر انحيازه الجمالي إلى جوهر الإنسان المفارق وهوسه بالحرية ، يقول ليوباردي: "إذا ما عن لنا ان نكرم كتباً بعينها لقيمتها الأخلاقية فإنني اعتقد أن كتب الشعر هي الأجدى بالتكريم على الإطلاق " لذلك سيبدو لنا سؤال الشعر إشكالياً ومنغصاً، إذا ما ربطناه بالجدوى، أو المشاريع، أو فكرة المنجز .. إنه كائن حفار بعمىً ثاقب البصيرة، ينظر بازدراء لكل هذه الترسيمات ، ليس من شأنه اكتناه الأجوبة ، ولا إبداء الآراء، ولا صنع التاريخ ، ولا تفقيس الأفكار ،ولا الشهادة على العصر.. هو الكائن المسرف في لا مبالاته، وهو يفض بمثابرة قشور الوجود، دون أن تكون له فكرة عن ما وراء أية قشرة، ولا هدف له سوى أن ينقل كل ما سبق إلى ملعبه، وينفخ فيه من روحه، ليزيده غموضاً وقابلية للتوغل فيه من جديد، ليس الشعر في حاجة وظيفية لتبرير وجوده الأزلي ، إنه كينونة في حد ذاته، له سيرته الجينية الخاصة التي بها نشأ وبها يتطور ، يريد أحياناً أن يقول مباشرة ، لكن تأتأة السؤال الصعب تلاحقه ، فلا يملك إلا الخرس في وسط الزحام الذي يتوخى الفهم والطرب .. ويستبدل كينونته بالظل كلما حاولنا القبض عليه، ووسط كل هذه الصلابة والعته الذي يكابر به ، سيجعل ثيمات اللحظة تنزف من سديمه اللامتناهي ، ليس الشعر بعيداً عن الألم أو الوطن أو الأم أو العشيقة الهاربة، أو الندم أو الحق أو عبادة الذات أو هجائها ، ليس بعيداً حقاً عن التغزل في قهوة الصباح ، أو بحة امرأة لحظة نهوضها من النوم ، ليس بعيداً ، لكنه قريب كقرب الجفن من العين التي أبداً لن تراه ، يمر بلعابه على كل هذه التفاصيل فتبدو راهنة وأبدية، جلية وغامضة.. لأنه قناص الدهشة باستمرار وصائد اللحظات التي لا تتكرر ، والأهم من ذلك باعث الكائنات الخرساء في صمتها ، وحاقن الأشياء المحايدة بشهوة أن تكون وأن تهذي. إنه جليل كالتراب المتوسل على الجباه الظامئة، وواثق من نبوءته كفتاة جميلة توزع الأمطار على العالم في نشرة الطقس، وخلف كل هذه الطاقة العظيمة يظل الشعر كائن الزوايا المعتمة ونبات الظل الذي لا ينمو في الضوء الشديد ، قدره العزلة التي من خلالها يتسرب إلى النفوس التائقة له، في كل زمان ومكان.. موعده مع المتوحدين أينما كانوا ، ولأنهم أقلية هائلة يظل حياً ونافخاً رحيقه في أشد الأوقات ضراوة تجاه أرواحنا، في أزمنة الحرب والجوع والكوليرا، يقترح أوكتافيو باث: "في الماضي كان الناس يتحدثون مع الكون، أو كانوا يظنون أنهم يفعلون ذلك ، وحين كان لا يجيب فلأنه، على الأقل، كان مرآة لهم، وفي القرن العشرين اختفى المتحدث الغامض واختفت الأصوات الغامضة .. صار كل إنسان وحيداً في المدينة الهائلة، يتشارك في عزلته مع ملايين الوحيدين، إن بطل الشعر الجديد معتزل وسط حشود المعتزلين" هكذا تحدث باث .. وهكذا نفهم وهماً يراودنا بأن زمان الشعر انتهى، وإن لا احد يقرأ الشعر الآن ، لكن هذا التداول الخفي في زمن العزلة يجعل سوق الشعر هي العتمة نفسها، حيث يمكن أن نتحسسه دون أن نراه ، الشعر الحقيقي لا يحب الشمس، لأنه لا يرغب أن يكون عاكساً لضوئها ، لكنه شغوف بنسج خيوط الضوء من العتمة، ومنغمس في إيقاظ كل الحواس التي طالها البكم والتلوث، يرى وسط الظلام وينصت في قلب الصخب ويشم وسط الحرائق ويتلمس الأشباح بأصابع مبتورة ، ليس المعجزة ما يفعله لكن الطفل العنيد في داخله لا يتوقف عن إحراج الأجوبة الراشدة بأسئلته البسيطة والمربكة، هنا ينهض السؤال من جديد ـ يقول شاعر معتوه خرج من الكهف متوهماً أنه سيضيء العالم :هنا البرزخ الذي نستدربه إلى حتف الأجوبة .. ماذا نريد ؟ .. لماذا الشعر؟.. وكيف القصيدة التي تشيّد ماءنا العنيد؟ .. نحن الشعراء المنبوذين ، ننتبذ بياض الورق لنسفر عن أوهامنا .. نحوج الأرض التي كلما أمطرناها ربت .. نحتاج السنبلة المائلة في الشفق الحميم .. نحتاج قليلا من الحبر نلوّث به يقين العالم .. نسترسل في أحلام اليقظة لننحت المكان كما يشاء المجاز .. . ليس في مقدورنا ارتياد الغرف بحزن المراهقات ، وليس في مكنتنا قلب الأساطير التي تنبض قرب أسرّتنا .. فقط نشتهي .. وفقط نكذب حينما يكون الصدق قمار الواثقين .. نكذب فنقول : إنَ الطفل الذي قفز من النافذة كان يلاحق العصفور الملون ، وان المرأة التي عطّرت سريرها تنتظر الأشباح ، ونكذب لنقول أن الغبار شتائم الصحراء التي نخونها مع عشب الحدائق .. لنا هذا الوتر الذي نشده بين العقل وشهوة الروح، لنا هذا الحبل الذي تخفق فوقه ثياب التجربة.. نرمي عصانا في لهب الأغاني ونترك للبحر محاريث الأنبياء .. نحن الشعراء ربما.. نطرد الخوف بصفير القصائد .. يتبعنا الغاوون حين يكون الغيٌّ ارتياب .. نصبأ عن الجبال ونهيم في كل واد عميق .. نقول ما لانفعل فنخترع الحلم ، ونفعل ما لا نستطيع فنخترع الوهم .. نسمو بالنثر إلى القصيدة ونعيد إلى الجسد طقسه الوثني .. نهرّب الخيال في جواربنا .. نرسم في غرف دون سقوف ونمضغ نعناع البراءة كي لا تفوح رائحة الحلم من أفواهنا .. نغادر الطرق المدروبة إلى مسارب الغابة الطرشاء.. نُزوّج الشوك من ألق البحيرة، ونشطب بالفرشاة قضبان النافذة .. متراسنا الضحك.. نتفكه على الندم ونزرع أصابعنا ديناميت في غرف المعاجم .. حديقة الكلمات المروضة ونزهة المحايدين .. لنطلق كائناتها الهادئة في الشوارع الصاخبة ، وننزع من عيون الآخرين معانيها المؤجلة .
الجسد عبقرنا الكثيف .. برهان الروح .. مأوى الجنون وخارطة النص الذي يمارس نزواته على الملأ.. .. لماذا الشعر؟ .. سؤال بحجم لماذا نحن .. وما هو الشعر ، سؤال بحجم الوجود، هائل مثل بركان وهامس كعود ثقاب .. نكتب على ضوء الحرائق قصيدة البرد والسلام ، ونكتب في الطمأنينة قصيدة القلق .. أنيسنا الفزع حين يستبد بالعيون طحلب الرضا.. لا نريد شيئا .. ولا أن نكون شيئا .. مغامرين أو عباقرة .. فقط نغني بهدوء .. مبللين على الأشجار العارية .. ننعش خشب النساء المنتظرات طقس البكارة بغيم الحبر المتناسل في أرواحنا .. لا نريد شيئا ولا أن نكون .. فقط نحن كما نشاء .. وكما الحياة نفسها تعبث بكل يقين.

ليست هناك تعليقات: