الجمعة، 24 أبريل 2009

ربيع درنة





أو ..
على سرج وثير
رديني إلى مَهْجَعٍ
أرى منه النجوم ..
إلى مرقد المنجل
تحت دثار من سنابلَ ..
أسكبُ الماء
على شحم الأيادي ..
مقايضاً
رغوة الصابون برحمة الوالدين ،
ومغدقاً زادي من الريبة
على كل وجه واثق ..

موقوت دمعي الخصب
برعشة مزمار
يتوضأ القلب
في لعابه الهادر ..
ليس بيدي
خرق المواعيد
التي تاجرت بوقتي ،
وليس بقدمي
سوى دروب
تحاشت وحل المسالخ
ومضت في السفوح
تترصد ساكنة الوادي البعيد ..
أمحو تجاعيد اليد
بكيروسين الموقد
سارداًعلى ضوء اليراعة
حنكةَ الظل
يرسم على الرواق كائنات لا تحد ..

ممشوقاً كمسواط رغوة
ولجتُ شوارع لا تفهم شعري ..
أحيك من صوف الخرافة
نور فتارينها ..
نورس يمتص روحي العزباء هناك ،
ومقالع حجر
يغفو على خشب النوافذ غبارها ..
مدينة تربت معي في القماط
أدخر في صندوقها عكازي
هائماً في شوارعها النحيلة
أجر الخطى
إلى كل جدار وردي
فترد بوحي أزقتها اللاطمة ..

من هنا
مر شاعرها الكاشف
حادي الوهم
إلى برتقال الوعود ..
ثَمِلٌ .. يلمع في نظارته
بريق وطن ،
وفي خطاه المائجة
قوافٍ تترنح في بحر يضيق ..
على برد المساطب
ألقَى حزمة الحطب
وغنى عيدها دون كعك ..
في كل مأتم له سؤال ،
ومن كل منور له دخان . .
عاث في رَوْعِ المدينة
خراباً حالماً
وزمجر برحاه
حيث الهمس مائدة الخائفين
ما طاق ليله دون خمر
ولا طاق السكوت !
من هنا مرت شعائر الجسد
المولع بالبخور ..
عين سوداء
تثقب عتمة اللحاف الأبيض !!
يتهادى
فوق الكاحل المترع
كرذاذ من النسيان ..
ونقر الكعب النحيل
يتلو على مسمع البلاط
آياته الخرساء ..
أو
هنا كان جرده الأبرص
مشتعلاً بالدفوف
يحصي بنات المدارس
على عقيق المسبحة
ذارفاً خوفه من عطن الفاكهة
تحت الجلابيب ..
آه .. يا صمت النحاس
كيف تتلمذ البارود على رائحة الياسمين ؟
وكيف اندثر الجسر القديم ؟
كيف تخثر السحلب
على الطاولة الفارغة ؟!
كيف تشرد الصيف في صمغ الرطوبة
باحثاً عن مقهاه الضليل ؟
كيف تقشرت حوافر الحصان
ومات في عربته الصهيل ؟
كيف استدار الزمان
وجار حبق الظل
على قامة النخيل ؟!

ليل المعادن كاسر كالريح
ريح المنارة
هامدة دون صفير ..
احمني من ضلالي فيك
يا قوت الذاكرة ،
يا أندلس المنفية فينا
آثمة في لوثة العِرْقِ
في لفتة الغريب
لا نثير الأضرحة يشفع لك ،
ولا الجهنمية
المطلة على الجار بالزهور ..
تائه غربالك في وبر الطحين ،
وحيض الوادي
نازف في البحر ورد السرير !!
يبكي السهارى شبابك ..
وما تبقى في الكؤوس
ذاهب في سواقي التجاعيد ..

على مهلك قليلاً
أعيد ترتيبك
كم كانت الأسماءُ عاتيةً
حين أحاق بك الغبار !
الأكواب تموج على السفرة
والطناجر قبعة الرؤوس ..
السور مُرٌّ على جلدك
تثقبينه بالسكر والرغيف ..
نام القرهمانلي تحت عرائشك
وسيفه في البحر صنارة لا تهتز ..
عَبَرَ الطغاة كرسيك الهزاز
وما رمش فيك كحل ..
آخر طلقة في المشط
وأمضي بجراحي في ظلام السوق ..
ليس يكفيني منك رقصة على خشب السدة ،
وليس يكفيك هذا النشيج ..
أنا النازل إليك من صفعة بعيدة
تعلمت فيك صخب الروائح
واقتسام المعابد لقلبك الفسيح ..
أنا النازل دون درع
أشم عطر السواني الموحلات ،
وأملأ من زفيرك صدري ..
فأحمني من هذا الصمت ،
ومن غبش العين في معانيك !
ليس بعد مأتم الزمن الجميل ،
وكلَّ ربيع يرشح العشب فيك من الصدوع ..
مبتلة كعهدك بالحبر
فأنصتي لخُطَى قلمي في وريدك ،
ولسرد الحجر في حيطانك القديمة ..
نقلي هواك حيث شئت ،
وانتعشي بشوق الكهول إلى طفولتك ..
أو
فألوي يد الزمن العذب ،
وقوديه إلى الغد موفور الرحيق ..

حُوتٌ على الأبواب ،
وحوت بالحناء على كف الجامحة فيك
حوت على كل نهد ،
وعلى الوسائد حوت
أقول
وثقوب القصب غائرة في الروح :
كيف جَمّعْتِ كلَّ هذي الدماء
دون أن تنكسري ؟
أقول ..
يا من تقوست فيك ظهور العابرين
يا من بنيت على كل رصيف
ماء السبيل ،
أقول يا من .. وأقول ياما
أقول :
بَرَدَ الحَساءُ في انتظار الطارق
ومالت الشمس
خلف منقارك العالي ..
فاقتربي من الآنية
ليس لك هذا الظمأ المزدهر ،
وليست لك السكاكين
اللامعة في خاصرات اليأس ..
ليست لك الفخاخ ،
وحلبات القبائل ..
ليس لك
سوى ما اخترعناه فيك ؛
منابت الطيش
جيرة الشرفات
قطارة الزهر
خمر التين
معزوفة الراعي
عطش النعناع
ومهطل الدراويش
في كترك الحميم ..
يا قبلة كل جائع
في زمن شُحِّ الرماد
أعطني فسحة
لأحلم فيك ..
أو
رديني إلى مهجع
أرى منه النجوم . ....

سالم العوكلي .. أكتوبر 2006










ليل درنة





الليل ….
ليل درنة
معطف للقلب الموارب
غابة تنحني فيها قامة الخوف قليلا
في كنف العتمة
نختلس الحياة
ونبني ..
سرو الضحك
خلف الأبواب المغلقة
الموسيقى ….
تخفت في مغزل العاشق
كي لا توقظ الجيران
خمر ليمونها الشفشي
تتنزه بين الشفاه
والنعناع مرابط على تخوم السهر
البنادير ترجف
في ضباب البخور
على ضاحية الكيف
تسلق صمت المعابد القديمة
الليل
ليل درنة
رطب … وغوير
يشخر على كتف الباطن
مقلوباً في جلده ..
يضئ أرق التبغ في أكشاكه الساهرة
ويشرب من عيون الدرناويات
لونه العتيق

بناته يهمسن في الهواتف
خزين الروح المراقة على برد الجدار
……
شرفات .. يمضغ الملح معدنها
وأقدام تترنح في شقوق الظلام
ظلال تستطيــــل
على ضوء عربات الشرطة
وتجهش بمائها ..
المسلوخ من عواء البحر

ليل درنة
ضيق على أحلام المراهقات
تعبر بطيئةً
رصيفه المزدحم بالعيون
تشاكسه ثقوب الضوء
في البيوت القديمة
صخب الرفاق
النابحين في هويد الليل أشباحهم
مِسْكُهُ
يتنفس تحت النوافذ ،
والأقراط .. تهبط بهدوء
تحت ضوء الوناسات الحميم
درنة غزيرة الروح ..
وذائبة كالسكر في شفاه التين
ليلها اللايكفي لرقصة أخرى
بابٌ توصده ..
على ثياب النهار
وتخفق بشَعرها الأسود
برد الحوش
مزماراً
يسكر الخصر الثري
وصلاةً
للمطر العنيد .

طقوس الظلام


1

كان عمري يناهز العشر سنين ، وكنت كوبوي صغيراً يرعى قطيعاً من الأبقار في أطراف الجبل الأخضر الذي مازال محتفظاً ببعض أشجار العرعر المتناثرة من بقايا تلك الغابة الطرشاء ، وبقايا صهاريج وكهوف رومانية قديمة ، كان النهار قائظاً فدخلت إحدى المغارات لأستظل بها ، قبو طويل بارد ورطب ومعتم ، يضيق كلما تعمقت به ، كانت تنصب به الشراك لحيوان صيد الليل الذي تغطي جلده إبر طويلة تسمى الشيص يستعملها للدفاع عن نفسه كلما أحس بالخطر فتتطاير كالنبال في كل اتجاه ، يشعلون النار في مدخل المغارة فيخرجه الدخان إلى الشرك المعد باتقان ، في تلك المغارة أخذني عند المساء سبات عميق ، وعندما صحوت وجدت نفسي في عتمة سوداء ، واصطدم رأسي بسقف المغارة الضحلة حين نهضت بسرعة وأنا لا اعرف مكاني ، خرجت زاحفاً وركضت مسرعا، وكانت تلك الواقعة أول صدامي مع عتمة بهذه الكثافة ، وكانت بدايتي خوفي من الظلام ، كنت أركض هاربا إلى عتمة أقل شراسة حيث بدت الأشياء في وميض الليل كأنها أشباح تلاحقني .

في مساء شتائي كنت نائماً بمفردي في منزلي القديم الذي يرجع بناؤه إلى العشرينات ، وأثناء نومي انقطع التيار الكهربائي ، وعندما نهضت وجدت نفسي بعد أكثر من ثلاثين عاماً في عتمة المغارة نفسها ، شئ واحد كان يختلف ، وهو أني أسمع صوت السيارات في الخارج ، فتحت الشباك لأجد العتمة في الشارع أكثر ألفة وطمأنينة ، مطعونة بسيوف لهبية من أضواء السيارات المتشابكة في الأفق المعتم ، تصبح الحياة بعدها محاولة دائبة لإضاءة العتمة المتطرفة بعتمة أقل ضراوة، من الممكن أن أرى فيها حدود أصابعي ووميض شاحب ومعبر للأشياء حولي يمدني بمعنى غامض للمكان الذي يعبر عن حضوره بشكل آخر حين لا يكون مرئياً ، في الظلام تتحفز الحواس ، فتتمدد الشبكية لامتصاص أكبر قدر من الضوء المتاح ، وتقوى حواس أخرى كالشم والسمع ، وتطغى الروائح والأصوات المنسية من الطفولة مجتاحة عالم الصخب الراهن ، لكن حاسة اللمس تغدو أكثر فعالية ، تلمس الأشياء لحظة أفولها يغدو هو الضوء الهادي إلى طريق لم تعد في متناول الرؤية .. عندما كنت أركض من المغارة في طريق معتم كانت أقدامي تتلمس درباً خبرته جيداً ، حتى لاح لي من بعيد ضوء الفنار المتسرب من ثقوب الصفيح كنجوم بعيدة ، كانت الأبقار قد عادت في موعدها ، وأمي التي اعتقدت أنني كنت كعادتي عند الجيران لم أحك لها ما حدث ، لكنها لاحظت أني طلبت منها تلك الليلة أن لا تطفئ الفنار ، وأغمضت عيني على كابوس: أركض في عتمة لا متناهية على طريق موحلة تلتصق بها قدماي ، يطاردني مجهولون يرونني جيداً ، وانا لا أرى شيئاً عداهم ، وكأنهم في بؤرة ضوء مسرحية ، ومراراً كان هذا الكابوس يتكرر كما هو ، وكنت استغرب عدم تكرار الأحلام المرحة في الوقت الذي تعيد فيه الكوابيس نفسها مراراً ، وكأنها مسجلة على شريط في الذاكرة ، في الفترة اللاحقة وفي المرحلة الإعدادية تحصلت على كتاب أصبح لا يفارقني وقرأته عشرات المرات، ورغم ذاكرتي الضعيفة في الكتب التي قرأتها إلا أنني مازلت أذكر غلافه المزين بفتاة جميلة وعنوانه عذراء للبيع لكاتبة ساذجة اسمها حياة إلقاق ، وما شدني في ذلك الكتاب هو مشاهده الجريئة والتي كتبتها أنثى ، وأكثر المشاهد التي كنت أتوقف عندها هو مشهد الطالبة التي كانت تحاول إغراء معلمها الملتزم ، وعندما آوت في ليل عاصف إلى فراشها انفتح مصراعا النافذه ، نهضت لتغلقها فوجدت المعلم القادم مع الريح بين يديها ، وضمهما سرير دافئ وسط عتمة مطبقة ، لم تره أو يرها لكن لغة اللمس التي وصفتها الكاتبة بدقة كانت الضوء الذي أنار تلك الليلة ، وتولدت في ذهني عتمة أخرى شاعرية ونابضة بالحياة واللذة ، عتمة متخيلة ستغدو فيما بعد مرقداً لأحلام اليقظة التي عبرها كتبت نصوصي الأولى ، فكنت مأخوذاً بهذا الظلام المؤنس الذي سيغدو حظوة عندما يمتلئ نهاري بالكوابيس التي تعيد نفسها مراراً ، العتمة التي يتصرف فيها الجسد بكينونته دون تفسير أو مراقبة لما يحدث ، تتحول الخلايا إلى مسام تنمو ببطء في ظلام ناعم كالصوف ، ويغدو إشعال الضوء مثل النار في مدخل المغارة طعنة لهذا الطقس الذي نتحرر فيه من العالم الخارجي ومن المحيط وننكفئ داخل ذواتنا مفعمين بذاكرة تجعلنا نمارس الأحلام في ذروة اليقظة ، لهذا ربما نحب لحظة غروب الشمس الأخاذ الذي سيسلمنا لعالم من الأنس الخفي فإذا الليل حميم وشهواني وإذا الصبح مطل كالحريق ، وربما لهذا تمتلئ الأشعار بالتغني بالليل وبالعين التي تلتوي أثناءه في داخلنا لنمعن جلياً في عالم كامل يقطن هذا الجسد المتعب من لهاث النهار . في الليل تأوي ظلالنا إلينا وتغادرنا الأوراح عبر الأحلام والرؤى التي تعيد مثل الفن كتابة الحياة النهارية عبر كولاج مختلط ووجوه تأتي وتغادر دون أن نعرفها ، مخزون الذاكرة يخرج على السطح زاخراً بالتأويل ليحقق كوجيتو الحالم كما يقول باشلار ، نعم على عتبة ميتافيزيقيا الليل كل شئ هو سؤال .

2

وفود من حجاج الظلام كانت تتهاطل على منطقة البردي حيث تم الإعلان عن كسوف كلي للشمس في هذه المنطقة ، والكل مترع بفضول مشاهدة الطبيعة وهي تخرج عن نسقها لثوان معدودة . والكل كان متشوقاً لأن يرى النجوم في عز الظهر .

معظم الدعايات التجارية والسياحية التي تتحدث عن كسوف الشمس ، تركز على أن هذا الحدث لن تتاح لك فرصة مشاهدته إلا مرة واحدة في حياتك ، وإنك محظوظ كون هذا الحدث النادر وقع في الفترة التي تعيش فيها.. لا يتعلق إغراء الكسوف وملاحقة العالم له عبر الأرض بالعتمة التي تحدث وسط النهار .. إن المجاز هو الذي يحركنا تجاه هذا الحدث ، مثلما يجذبنا صوب الفن .. أن تفاجئك العتمة في الظهيرة .. أن ترتدي الشمس للحظات خمارها وتغدو قرصاً أسود تحيطه هالة خفيفة من الضوء الخجول ، كل هذه صور من الممكن أن تكون من صلب الشعر ، أو بالأحرى يمتلئ بها مجاز الشعر ، وشغف الإنسان هنا يتمحور حول فرصة أن يكون أمام المجاز وجهاً لوجه .. أن يتحول المجاز أو الاستعارة إلى واقعة تُلتقط بجانبها الصور التذكارية ، ثوان مسروقة من قلب الليل ، ومنثورة كعينة في عز النهار .. والعالم يرحل صوب هذه الثواني قاطعاً آلاف الأميال ، حيث انفجار العلاقة الفنية بين المكان والزمان ، السفر عبر مكان شاسع للتمتع بزمن مقتضب يكاد لا يرى ، وفي هذا الزمن الومضة يغدو الإنسان مصلوباً على فرصة حياته النادرة ، التي تبدو كتفجير لغوي مكثف عبر نص نثري طويل وركيك ، إضافة إلى فرص أخرى تجعله يثأر من إمكاناته البسيطة أمام قوة الطبيعة ، مستمتعاً بهذا النشاز الأخاذ في النظام الكوني برمته ، مثلما يستمتع الشاعر المناوئ بكسر إيقاع شعري ممل ورتيب ، تكمن لذة الثأر في إمكانية التحديق بقوة في قرص الشمس المنطفئ أمامه في ذروة ارتفاعه ، لحظة ضعف أنثوية تستسلم فيها الشمس الجامحة أمام عيوننا ، ولحظة نستمتع فيها بارتباك الكائنات المبرمجة بساعة بيولوجية ، تعود الطيور ملتبسة إلى أوكارها ، لتركن إلى ليل قصير لا يكفي لنفض جناحها ، ارتباك هذا النظام ساحر.. وضرب الرتابة في صميمها ملهم لنا .. قال أحدهم : ما الذي يدفعني لأن أترك أعمالي وأسافر بعيداً لأتفرج على دقيقة من الظلام ، والظلام متاح في بيتي بكثافة ، وهو هنا بذاكرة خالية من جاذبية المجاز ، يجرد الحدث ويخلع عنه شعريته ، يرده إلى خامة الأسئلة التي تتوخى الجدوى ، والسؤال عن الجدوى طاعن للفن في جوهره ، وتكفي إيماءة ساذجة للإجابة عنه .

أعود إلى الدعاية التي تتوسل كون هذا الحدث لن تراه إلا مرة في العمر ، وكأن كل ما يحدث في حياتنا قابل للتكرار ، فلا شيء في عمر الإنسان إلا ويراه مرة واحدة .. وجه أنثى لا يمكنك أن تراه إلا مرة واحدة ، وشكل سحابة عابرة أيضاً .. وصورة وجهك في المرآة لا يمكن أن تراها كما هي مرتين ، قانون الاختلاف المنبثق من الحركة يجعل كل شيء جديد ، ورغم كل شعرية الكسوف التي ذكرت ، فإن شفق الشروق سيظل أكثر المشاهد فتنة وإثارة ، وأحب أن تحسب حياتي بكم شروق لا أن تحسب بكم كسوف عشته .

الأربعاء، 15 أبريل 2009

عادات طائشة ..


سالم العوكلي

وكر الشمع قريب من ثقابي
وعينُ القلب ..
جافلة عن كل ظل
فأدخليني على مهلٍ .
طريحَ الوهمِ
ما عاد السؤال يسلبني انتباهي
أحط ..
حيثما نثرتِ قمحَكِ
شفيعاً لكل نهد متربْ
صفيري وراء ضفيرتيك
مكسورٌ على الحصى
والقرية التي ..
أودعتُها زهر قفطانك..
تراودني
تُغلغِلُ سروَها في أراجيل المقاهي ،
تسخر من ريبتي في آخر العمرِ
ومن أطفالي ..
اليخافون الليل والضفادع .
بُحتُ لك ما يكفي ..
لكي تمضي دون التفاتٍ
ونسيت أني ..
في يقطينكِ
تعلمتُ ارتشافَ رُبِّ الحلمات ،
وأعقاب السجائر.
شاق عليَّ ..
المرورُ من قَصْلِكِ
دون أن أُخدشْ
وشاق عليَّ اليومَ
استراق الحبرِ
إلى هسيس التبن تحت لحمكِ .
أدخليني كما أنا ..
أجادل فيكِ
كلَّ أحمر رجيمْ
كلَّ أخضر شفافٍ ..
قارٍّ في بئره
كلَّ زعتر لاذع
كلَّ عسلٍ ..
مورقٍ في عينيكِ
وطن بعيــد .. بعيد
وظُفره في لحمي ..
أمشيه واثقاً
من بَرَكَةِ الغيم على أصابعي ،
من ترابك الضارعِ ..
لكل برق طائشْ .
عاداتي
ما عادت
تُربِّيكِ في قفصي ،
وألوانكِ فرت من اللوحةِ
واجتاحتْ خريفَ المعادنْ
أزرقُ
في قدميكِ ..
منذورٌ لفجوة الإلهْ
فرَتِّبي على مهل خُصَّكِ
وانتظري جوادي الخشبيَّ
انتظري العتمةَ ..
لنأوي إلى عرسنا الصغيرِ
لنمزُجَ لُعابينا
ونحمدَ الله ..
على الزغب الواقف دون عكازْ
***
يونيو 2005

قيثارة الصوف ..



سالم العوكلي

المنحوتة للفنان محمد زعطوط

جسد الأم منتشر في المحيط ، مغرق في سخائه الذي لا يعرف الوهن ، كل شئ متشرب به ، ومؤنث عبره ، مختلط عبر كيميائه الخاصة مع مفردات المكان ، ومعزوف بإتقان إلهي وبعذوبة إيقاع لا يهدأ إلا في عزلته ، كل شئ أذكره في طفولتي كان يمر عبر جسد الأم ، الحليب ، الملابس ، المأوى ، والطعام الطازج الذي تقضي ليلها تناجي على حواشيه الرحى بأغانيها، ويدها التي تطلي أجسادنا بالماء المحمول على ظهرها الذي في أرجوحته الوارفة كم تسلقت معها السفوح بحثاً عن البابونج والزعتر ، تستلم الصوف ساخناً من على ظهور الضأن ، وتبدأ مرحلة التكوين والعزف المفرد على أوتاره ، يتلوى تحت عصاها مخلوطاً بكلس الجبل المُعقِم ، وتجري خيوطه النحيلة بين أصابع قدمها ويدها لتلتف على المغزل الخشبي الذي يدور كترس على ساقها ، تمتد الخيوط صوب الشفق البرتقالي وهي تحبو على ردفيها خلف قيثارة الصوف الذي سوف ينتصب بيتاً مزخرفاً من الداخل بألوان انتحلتها من بقايا ملابسنا ، كل رقعة فيه مشحونة بذاكرة وحكاية ، مربعات من الألوان المتزاحمة ، لا يربطها شئ سوى مزاج الأم ومجازها لحظة الرفو ، في إحدى الشتاءات القاسية ، التي يهطل فيها الجليد بغزارة ، كنا نربض في بيت ربيعي من الشعر في إحدى سفوح لالي التي تقع في أعلى الجبل الأخضر ، تكورنا ليلتها جميعاً في مساحة صغيرة بين عامودي البيت ، حيث هناك الفضاء الوحيد الذي لا ينقط فيه البيت الماء البارد على أجسادنا ، نمنا جميعاً لكن أمي لم تنم ، قضت ليلتها تجرف الجليد المتراكم فوق نسيج البيت حتى لا يسقط فوقنا ، كانت تدور طيلة الليل القارس كرحى أو كمغزل لا يهدأ ، وفي الصباح أيقظتنا رائحة الحليب الفائر على الجمر الطازج ، وكانت كل البيوت في سفوح الوادي قد تهاوت وانتقل قاطنوها إلى الكهوف في منتصف الليل عدا بيتنا الذي ظل منتصباً كفطر عملاق وسط الجليد بفضل تلك العجوز القصيرة والعنيدة ، التي ألقت بجسدها في قلب البرد والعتمة لتحمي أجسادنا ، جسد الأم بوح بيولوجي ، وانتهاك غريزي وحميم لكل الكائنات المتاخمة له ، ملهَم باللذة والألم عبر تصدير ممكناته للآخرين ، ومفعم بخليط من الروائح المعبرة التي لا يمكن نسيانها ، روائح القرنفل والعنبر والدخان ، يلبي بافتتان رغبات الجميع دون إحساس بالتعب ، ينشطر كرافدي نهر دافق بين الأمومة واللذة ، بين السماء والأرض ، بين العبادة وتوق العالقين بردائها ، وقتها المزدحم بالإيثار هو مأتى صلاتها العجلى ، ونومها المتاخم لليقظة محرر للجسد الأخاذ من النسيان ، قبل رحيلها بأيام سردت لي على غير عادتها كل تفاصيل حياتها الضاجة ، وكأنها تودِعني أمانة سرد التجربة الحافلة ، تجربة امرأة عزلاء سوى من الحب عاشت شظف الحياة في مكان وعر ، طلبتُ منها تلبية لرغبة صديقي أحمد يوسف عقيلة الذي يعد كتاباً عن غناوة العلم أن أسجل منها بعض غناوي الرحى ، فكانت دون وعي تدير يدها على رحى وهمية كي تعيد الزمن وتتلو ما تيسر منها ( زنين هالقلب يريد .. رموات قمح ما فيهن غثر ) كانت تؤديها جارتها الصغيرة والجميلة التي أرغمت على الزواج من رجل يكبرها سناً ويعاني من عاهة ، وعندما سمعها فهم الرسالة وتركها تمضي في حالها ، كانت تسقط مفردات الرحى على ذاتها فالقلب هو القضيب الأوسط التي تدور حوله الرحى ، كان يحدث أنيناً ، لأنه يريد قمحاً دون شوائب ، وهكذا كان حالها ، كنت أحاول دائماً أن استعيد أغاني أمي لأعرف ما كانت تبثه من شكوى عبر ليلنا الموحش.

أيام ...

سالم العوكلي
بيت شعر طالما ردده أبي ، وأذكر أني سمعته للمرة الأولى على الطريق العام بين قريتي القيقب ولالي ، حيث كان في تلك الفترة أحد العمال مسؤولاً عن كيلومتر من هذه الطريق ، يقوم بتنظيفه وصيانته يومياً : اللي ما مشى ما عرف لرض ، لا وردك عالمناهل / واللي ما قرا ما عرف فرض ، حتى ان عاش مازال جاهل ) كان عبر هذه الأبيات يحثني دائماً على السفر ، معتبراً إياه إحدى وسائل المعرفة ، ولا أعرف كيف تأتَى لهذا الشيخ الأمي مثل هذه الدراية بأهمية الترحال ، وهو المستقر طيلة عمره الذي ناهز المائة عام في منطقة محدودة من الجبل الأخضر ، لم يغادرها إلا سنوات مجبراً إلى معتقل العقيلة الذي عاش سنواته شاباً في العشرين يتيم الأب والأم ، أو في فترة أدائه لمناسك الحج في أواخر الستينات ، تلك الفترة التي أراه للمرة الأولى يحمل حقيبة ، ويقف على الطريق في انتظار سيارة تقله إلى بنغازي ، كنت ألهو بجانبه حين ودعني وركب سيارة أحد فاعلي الخير، وظللت أراقب رايته البيضاء المرفرفة فوق عامود بيت الشعر والتي كنا نخاف التفافها على السارية الصغيرة لأن عدم تحركها بانسياب مع الريح يعني أنه يعاني من مأزق في غربته ، حتى فاجأنا بعودته ونحن داخل البيت ودون أية مقدمات ، عاد بلقب الحاج ، وبصف من الأسنان الذهبية ، وبمزيد من النحافة والسمرة ، أتذكر ذلك كلما رأيت كرنفالات الحجاج الآن ، وحفلات التوديع والاستقبال الصاخبة ، وتأجير صالات المناسبات ، ومواكب السيارات التي ترفرف على مقدماتها الرايات البيضاء .

كان يبهرني لمعان أسنانه الذهبية وهو يتحدث للرفاق عن مغامرته في الأراضي المقدسة ، وعن رهبة تلك الأمكنة المشحونة بتاريخ الروح إلى أقصاها ، ومع السنين وبعد أن تساقطت أسنان أبي الذهبية الواحدة تلو الأخرى صار الحجاج العائدون من مكة يتحدثون بانبهار عن مطار جدة وعن المصاعد والأرصفة والمحلات الراقية ، وعن أحدث وسائل التقنية التي حل إبهارها ورهبتها بدل إبهار ورهبة الأماكن المقدسة ، التي لفها سحر من منتجات الحضارة الراهنة ، كانت تلك تجربه سفره الاختيارية الوحيدة هو الشغوف بقيمة السفر الذي ما فتأ يحثني عليه ، وعند عودتي من سفري الأول إلى شرق آسيا ـ دون أن أترك راية بيضاء ترفرف خلفي ـ طلب مني أن أحدثه باستفاضة عن هذه التجربة ، فسردت له ما يصلح للسرد العائلي وهو يتفحص الصور التي أحضرتها معي ، إلى أن رماها فجأة بعيداً حين لاحت له صورتي وثعبان كبير يتدلى على كتفي وهو يردد : هذه هي اللي امتعبتك لحد الدنيا ، ولا أدري ربما حب أن يراني محتضناً كائناً آخر أكثر رقة وتعبيراً ، لكنني تذكرت أحد مواسم الحصاد حين أحضرت له ثعباناً حقيقياً وأنا فرح باصطياده ، فركض بعيداً وهو يقذفني بالحجارة ، واكتشفت للمرة الأولى إن أبي الذي كان يشكل لي رمزاً للشجاعة يخاف الثعابين إلى درجة الفوبيا ، غير أن أبي الذي أعتبره قدوتي في التسامح رأيته في مرة أخرى مشفقاً على ثعبان علق بغراء الفئران في مخزن الحبوب ، معتبراً إياه أكثر فاعلية في اصطياد الفئران من الغراء ، كان يتغلب على خوفه من أجل هذا الكائن الذي يبدو في تلك الحالة مفيداً ، لا أدري كيف استرسلت في هذا الحديث ، لكن ما يهمني هو ذلك المرسل التي تحمله أبيات الشعر عن أهمية السفر والقراءة للمعرفة ، وأيضاً ذلك الطريق العام النظيف والذي كان يقوم حوالي ألفا عامل بتنظيفه يومياً من رأس اجدير إلى مساعد والذي أصبح الآن دون تخطيط أو إشارات أو مصارف لمياه الأمطار تتعفن فوقه الحيوانات النافقة، كمؤشر لصعوبة التواصل التي نكابدها الآن على جميع الأصعدة.

الأحد، 12 أبريل 2009

A bench for two Lovers



By: Salem Al Okali


A desert swelling on the map..
Cities searching in the pockets of the unseen
For the keys of the century.
Streets narrow for the smoke of your cigarettes
Open terraces..
Deluded with the washing drizzle
On the pavement you bow
Under hanging meat
You pass with a woman
A driver gave her the way
In return for the light of her legs.
Posters on the walls
Workers on the side of livelihood
Consuming coals of the narghiles.
Italian shoes
Don’t understand the language of our streets.
Lovers pretending to be relatives
And kisses postponed to the next century.
Boys pushing to the dream
Carts of tobacco.
And girls happy with the small breasts.
Hot phones till the morning..
Waiting for the residential crises to be solved.
And mosques minarets..
Promising the patients for a peaceful judgment day,
And paupers idealizing the failure
And feel satisfied with praising Manhood.
Ready identity cards in pockets
And you..
At the end of the café
Cursing the government
Because the tea is without foam.
Your impossible girl
Wasting her body in fitting rooms,
And the bad liquors..
Is not enough for your absence..
As soon as the others see you
They swallow your stature
And stagger..
Luxury vehicles
Snatching the girls from the trap of the poems.
Despite the well chosen words,
And the tidy pens in the shirt’s pocket
And your subjective critique of renowned poets
The new girl friend tells you:
That a comfortable chair
Is better than a vague poem
And you lose because you’re like this,
And because the half opened stores..
are vigilant against Gheble and thieves.
In your pocket a shopping list
And in your head a list of prohibited items,
In your hand a broken watch,
And a ring that drives away the admirers
Remember..
Your early arrival to your job
Doesn’t mean that you woke up
And the children that slept all the day
Will hunt your pleasure…
next night.
Your jealous wife..
Cleans your clothes from beach’s tar
And your eyes from the pictures of female presenters.
Remember...
What lights your room
Isn’t necessarily...
the glow of your early sleeping woman
You spend your night waiting for a poem
And on the steps of the court
You spend your day waiting for a fresh divorcee
Thus, terror hits you
While you struggle for the scene
And you smell in the eyes…
The forest fire
And you search the city
For a bench for two lovers
And you’re inspecting your friend’s comic drawings
More terror hits you
When you return back home
Without crossing off the list:
You have to bleed a lot..
So, your sleep becomes lighter.
You have to draw a sober frown
Thus, laughing kills the heart
You have to invent your secret name
To each new lover
You have to fade the window’s light
And plant an eyehole in your door
You have to insert your knife
In the woman’s body
To test her sweetness
You have what you have
Before you meet –face to face-
Your lean face
A wound, the size of the mirror
A vast homeland
Without a place to make love
A window..
At the end of the corridor
Listening to the footfall of foreign shoes
And a desert
Swelling
In the heart

And on the map